اعلم أن الشرك قرين الجهل. والتوحيد قرين العلم لا ينفكان.
يقول الله جل ثناؤه: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ). [يوسف: 40].
قال ابن كثير: أي فلهذا كان أكثرهم مشركين اهـ.
وهذا المعنى –وهو جهالة أكثر الناس- مستقر في كثير من الآيات
كقوله –تعالى-: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
[لقمان: 25].
وقوله –تعالى-: (مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)
[الدخان: 39].
وقوله –تعالى:- (إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [الأنفال: 34].
-------------
وهذا في الكثير الكثير من الآيات وصف أكثر الناس بالجهل وعدم العلم، وكذلك أيضاً وصف القرآن في العديد من الآيات أن أكثر الناس مشركون ضالون عن سواء السبيل كقوله –تعالى-: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) [يوسف: 106]. (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) [الأنعام: 116]. فعلم بنصوص القرآن المستقرأة البينة الواضحة الدلالة: أن أكثر الناس يجمعون بين الشرك والجهل. فعندما يقول الله –تعالى-: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ) [النساء: 48]. ثم نقصره على العالم والمعاند فقط فهذا لا يكون إلا للنادر القليل ومن المعلوم أن النصوص نزلت لأجل المشاع الغالب ذكره وليس للنادر القليل الذكر.
يقول الإمام أبو بطين (بعد نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية: إن من فعل الشرك فهو مشرك يستتاب فإن تاب وإلا قتل). قال: فقد جزم –رحمه الله- في مواضع كثيرة تكفر من فعل ما ذكره من أنواع الشرك وحكى إجماع المسلمين على ذلك ولم يستثن الجاهل ونحوه وقال –تعالى-: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ). وقال عن المسيح أنه قال: (مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ).
فمن خص ذلك الوعيد بالمعاند فقط وأخرج الجاهل والمتأوّل والمقلد فقد شاق الله ورسوله، وخرج عن سبيل المؤمنين. والفقهاء: يصدرون باب حكم المرتد بمن أشرك بالله ولم يقيدوا ذلك بالمعاند وهذا أمر واضح ولله الحمد اهـ. "الدرر السنيه ، الانتصار لحزب الله الموحدين"
وبهذا يعلم فقه ابن عباس –رضي الله عنهما- عندما علّل ووقت اقتراف الشرك في قوم نوح بتنسخ العلم، فقال: فلم تعبد (أي الأصنام) حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت. فهؤلاء القوم كانوا بداية على التوحيد ومن نسل موحد ثم دب فيهم الشرك بنوع من الجهل والتأويل وتخرصاً وحسباناً أنه يقربهم إلى الله زلفى بدعة من تلقاء أنفسهم لم ينزّل الله بها من سلطان، فأصبحوا مشركين، فعند هذا بعث الله إليهم نوحاً، عليه السلام، بشيراً ونذيراً ليقيم الحجة الموجبة للعذاب في الدارين لمن خالفها.
قال –تعالى- في سورة هود: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25) أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)).
قال ابن كثير: يخبر –تعالى- عن نوح، عليه السلام، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبدة الأصنام أنه قال لقومه: (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ). أي: ظاهر النذارة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله...
وقوله: (إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ). أي: إن استمررتم على ما أنتم عليه عذّبكم الله عذاباً إليماً موجعاً شاقاً في الدار الآخرة اهـ.
قلت: وما يقال في قوم نوح، عليه السلام، يقال في كل أمة بين رسولين لأن الرسل ترسل لأقوامهم –المشركين الجاهلين- بالإسلام العام فيكفر أكثر أقوامهم ويؤمن لهم من وفقه الله للهداية ثم يفصل الله بينهم وبين أقوامهم، ويبقى الموحدون –بعد هلاك الكفار بالرسالات- ثم يمكثوا ما شاء الله لهم على التوحيد. حتى إذا تنسخ العلم لديهم دب فيهم الشرك وأتُوا من قبل جهلهم وتخرصهم على ربهم بغير سلطان لديهم من الله -جل ثناؤه- فعند هذا يبعث الله رسولاً ليخرجهم: من الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الجهل إلى العلم ويتوعدهم بالعذاب في الدارين إن استمروا على شركهم وكفرهم بعد الحجة الرسالية. وهذا لقوله –تعالى-: (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165].
ومن هذا يعلم: أن اسم المشرك ثابت قبل بلوغ الرسالة، والعذاب في الدارين لا يكون إلا بعدها.
قال ابن تيمية نقلاً عن محمد بن نصر المروزي: قالوا: ولما كان العلم بالله إيماناً والجهل به كفراً، وكان العمل بالفرائض إيماناً والجهل بها قبل نزولها ليس بكفر، لأن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أقروا بالله أول ما بعث الله رسوله، صلى الله عليه وسلم، إليهم ولم يعلموا الفرائض التي افترضت عليهم بعد ذلك، فلم يكن جهلهم بذلك كفراً. ثم أنزل الله عليهم الفرائض فكان إقرارهم والقيام بها إيماناً وإنما يكفر من جحدها لتكذيبه خبر الله. ولو لم يأت خبر من الله ما كان بجهلها كافراً وبعد مجيء الخبر من لم يسمع بالخبر من المسلمين لم يكن بجهلها كافراً والجهل بالله في كل حال كفر قبل الخبر وبعد الخبر اهـ."جـ7 ص325 مجموع الفتاوى
وقال صاحب بدائع الصنائع فإن أبا يوسف روى عن أبي حنيفة - هذه العبارة فقال: كان أبو حنيفة يقول: لا عذر لأحد من الخلق في جهله معرفة خالقه لأن الواجب على جميع الخلق معرفة الرب –سبحانه وتعالى- وتوحيده لما يرى من خلق السموات والأرض وخلق نفسه وسائر ما خلق الله –سبحانه وتعالى- فأما الفرائض فمن لم يعلمها ولم تبلغه فإن هذا لم تقم عليه حجة حكمية بلفظه اهـ."بدائع الصنائع جـ7 ص132 –دار الكتب العلمية
وقال ابن تيمية في وكذاك أخبر عن هود أنه قال لقومه: (...إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ). فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه لكونهم جعلوا مع الله إلهاً آخر. فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة فإنه يشرك بربه ويعدل به ويجعل معه آلهة أخرى ويجعل له أندادا قبل الرسالة، ويثبت أن هذه الأسماء مقدم عليها، وكذلك اسم الجهل والجاهلية يقال جاهلية وجاهلاً قبل مجيء الرسول وأما التعذيب فلا، والتولي عن الطاعة كقوله: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى، وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى). فهذا لا يكون إلا بعد الرسول اهـ."جـ2 ص37 لمجموع الفتاوى.
يقول الله ,تعالى-: (ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) [الأنعام: 131].
قال القرطبي: ... أي إنما فعلنا ذلك بهم لأني لم أكن أهلك القرى بظلمهم أي: بشركهم قبل إرسال الرسل إليهم فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير. وقيل: لم أكن أهلك القرى بشرك من أشرك منهم فهو مثل: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). ولو أهلكهم قبل بعثة الرسل فله أن يفعل ذلك اهـ.
وقال البغوي: أي: الذي قصصنا عليك من أمر الرسل، وعذاب من كذبهم لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم أي: لم يكن مهلكهم بظلم أي: يشرك من أشرك: (وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ). لم ينذروا حتى نبعث إليهم رسلاً ينذرونهم اهـ.
وقال الشوكاني: (يظُلْمٍ) ) (–سببيه: أي: لم أكن أهلك القرى بسبب ظلم من يظلم منهم والحال أن أهلها غافلون. لم يرسل الله إليهم رسولاً. والمعنى: أن الله أرسل الرسل إلى عباده لأنه لا يهلك من عصاه بالكفر من القرى. والحال أنهم غافلون عن الإعذار والإنذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب اهـ.