شبهـــات في قضيــة التحـــاكم الي الطــاغــوت
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الشبهة الأولى : فى تعريف التحاكم :
_________________________
أولا : بالنسبة للقول بأن آيات سورة النساء والمائدة مدنية ، وهى :
قوله تعالى : "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ ...أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) النساء " .
وقوله تعالى : "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) المائدة " .
أنها نزلت فى المدينة عندما كانت هناك حكومة إسلامية ، ومن ثم وُجِدَت صفة العدول عن شرع الله ..
فالرد عليه من وجوه :
ــــــــــــــــــــــــــــ
الوجه الأول : ـ
أن تعلم أن العبرة فى نصوص القرآن والسنة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .. ثم أن آياتى سورة النساء تضمنت كل آية منهما وصفاً وحكماً مستقلاً عن الأخرى ، بيان ذلك :
الآية رقم (60) التى قال الله تعالى فيها : "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا " .
.. أقول هذه الآية الكريمة قد حكمت بالضلال البعيد على من أراد ـ مجرد الإرادة ـ التحاكم للطاغوت ، ومعلوم أن الضلال البعيد هو "الشرك "، قال تعالى : "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) النساء " .. كما أن الآية الكريمة حكمت بأن من أراد مجرد إرادة التحاكم للطاغوت ، لم يحقق الكفر بالطاغوت الذى أراده الله عز وجل منه ، ومن ثم فلم يحقق ركن كلمة التوحيد الأول ، وهو "الكفر بالطاغوت "، قال الله تعالى "فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " (256) البقرة . كما أنَّ هذا المتحاكم للطاغوت قد حقق إرادة الشيطان لا إرادة الرحمان ، قال الله تعالى : "وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا "النساء 60 .
، أما الآية التى بعدها رقم (61) والتى قال الله تعالى فيها : "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا "، فقد بينت أن من تحاكم للطاغوت فى الظاهر ـ دون إكراه ملجىء _ يلزمه أن يكون منافقاً فى الباطن ؛ فهذه الآية الكريمة حكمت بكفر الباطن أيضا ـ ومعلوم أن النفاق من أنواع الكفر ـ لمن ترك شرع الله ورسوله .
قال ابن تيمية : "فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامداً لها عالماً بأنها كلمة كفر فإنه يكفر بذلك ظاهراً و باطناً و لأنَّا لا نُجَّوِز أن يُقال : إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنا و من قال ذلك فقد مرق من الإسلام قال سبحانه : { من كفر بالله من بعد إيمانه ـ إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و لكن من شرح بالكفر صدرا ـ فعليهم غضب من الله و لهم عذاب عظيم } [ النحل : 106 ] "اهـ ( الصارم المسلول 3 / 95 ) .
ويقول رحمه الله أيضا : "و ذلك لأن الإيمان و النفاق أصله في القلب و إنما الذي يظهر من القول و الفعل فرعٌ له ودليلٌ عليه فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه " ( الصارم المسلول 1 / 34 ) .
وبالنسبة لآية المائدة "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ "، فليس لهم حجة فيها ؛ لأنها تتضمن ذم حكم الجاهلية ، فإذا كان حكم الجاهلية مذموم ومستقبح قبل الرسالة وقبل قيام دولة إسلامية تطبق شرع الله ، فهل يكون مستحسناً وخيراً بعد الرسالة !! .
الوجه الثانى : ـ
------------
أن تعلم أن من كمال عدل الله سبحانه وتعالى أن جعل حكمه عز وجل قائماً حتى قيام الساعة .. (( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ )) (42) الأنفال ، فالتحاكم لله لا ينحصر فى التحاكم لسلطة مسلمة قائمة تُنفِذ شرع الله ، بقدر ما يتمثل فى التحاكم للميراث الشامل الكامل الخالد ، الذى أنزله الله عز وجل للناس من فوق سبع طباق ؛ ليتعبدوا بما فيه وليحكموا به ويتحاكموا إليه فى كل شىء ، دليل ذلك :
(1) من كلام ربِنا ؛ قوله تعالى : (( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) البقرة )) ، وقال تعالى : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) النساء ... ومعلوم أن الرد إلى الله الرد إلى كتابه ، وأن الرد إلى الرسول الرد إليه فى حياته وإلى سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم .
كما أن الله عز وجل ذم تحاكُم أهل الجاهلية للطاغوت قبل البعثة وقبل وجود حكومة مُطّبِقة لحكم الله على الأرض ، فهل يجوز لعاقل أن يقول أنه قد أباحه ورخص فيه بعد أن بعث رسوله وأكمل دينه .. تعالى الله عن ذلك الإفتراء .
جاء فى تفسير الطبرى لقوله تعالى: "فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " (256) البقرة ، قال الطبرى رحمه الله : (( حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فمن يكفر بالطاغوت"، قال: كهان تنزل عليها شياطين ، يلقون على ألسنتهم وقلوبهم = أخبرني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، أنه سمعه يقول: - وسئل عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال-: كان في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، وفي كل حي واحد، وهي كهان ينزل عليها الشيطان)) أ . هـ
وجاء فى تفسير اللباب لابن عادل فى تفسير آية النساء رقم 60
قال جابر : كَانَتِ الطَّواغِيتُ التي يَتَحَاكَمُون إليها واحدٌ في جُهَيْنَة ، ووَاحِدٌ في أسْلَم ، وفي كُلِّ حَيٍّ واحدٌ ، قال السيوطي : وقد أخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس ، قال : كان برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه ، فتنافر إليه ناس من المسلمين ، فأنزل الله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ } الآية .
(2) ومن سنة نبينا ، فيظهر من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن مالكاً للسلطة التنفيذية المُلزِمة لما يحكم به فى مكة وفى فترة طويلة فى المدينة . بدليل أنه لما تحاكم إليه اليهودى والمنافق لم يأخذ حق اليهودى من المنافق ، مما دفعهما إلى الذهاب إلى أبى بكر ثم إلى عمر رضى الله عنهما.
جاء فى تفسير ابن كثير لقول الله تعالى : "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ .. "ما نصه : قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دُحَيْم في تفسيره: حدثنا شُعَيب بن شعيب حدثنا أبو المغيرة، حدثنا عتبة بن ضَمْرَة، حدثني أبي: أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل، فقال المقضيّ عليه: لا أرضى. فقال صاحبه: فما تريد؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق، فذهبا إليه، فقال الذي قُضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي فقال أبو بكر: فأنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى صاحبه أن يرضى، قال: نأتي عمر بن الخطاب، فأتياه، فقال المقضى له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى لي عليه، فأبى أن يرضى، ثم أتينا أبا بكر، فقال: أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يرضى . فسأله عمر، فقال: كذلك، فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قدْ سَلَّه، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى، فقتله، فأنزل الله: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... إلى آخر الآية } .
الوجه الثالث : ـ
---------------
أن العدول والحياد عن حكم الله يكون بـــ ( إرادة التحاكم أو بالتحاكم لغيره ) مع العلم بوجود حكم الله ورسوله فى المسألة المتنازع فيها ـ وهذا يلزم كل مسلم يؤمن بقول الله"وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله"، وقوله تعالى "ما فرطنا فى الكتاب من شىء"ـ وبغض النظر عما إذا كان لهذا الحكم قوة إلزامية تنفذه من قبل المسلمين أم لا ؛ لأن هذا يعود إلى تفريط المسلمين ، لا إلى تفريط رب العالمين ـ سبحانه وجل شأنه ـ .. فمن علم بوجود حكم الله فى مسألة ما وذهب ليأخذ حكم غير الله فيها ، فيقال أنه ترك حكم الله ورسوله وعدل وحاد عنه واختار حكم غيره .
ثانيا: بالنسبة للإستدلال بكلام ابن كثير فى تفسير هذه الآيات :
عندما قال : " ... والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة ، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل ، وهو المراد بالطاغوت هاهنا ". ( انظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير ، سورة النساء الآيات 60، 61 ) ، وعندما قال : "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله " ( انظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير ، سورة المائدة الآية 50 ) .
لا نقول كلام ابن كثير المتقدم لا تقوم به حجه فى ذاته ـ وإن كان هذا أمر وارد ـ لكنه استدلال فى غير محله لوجوه منها :-
(1) أن ابن كثير رحمه الله كما يقول (أحمد شاكر) فى عمدة التفاسير : يصف لنا حالة الدولة الإسلامية التى كانت آنذاك بريئة من هذا العار وهو تنحية شريعة الله عن الحكم بين عباد الله .
(2) أن ابن كثير رحمه الله لم يقل بجواز التحاكم للطاغوت فى حالة عدم وجود حكومة إسلامية تطبق شرع الله .. فهل نفترى عليه الكذب ونُقَّوْلَه ما لم يقُل ؟! .
(3) أن ما ذكره ابن كثير رحمه الله من وجود سلطة إسلامية تحكم بين العباد بشرع الله فى تلك الحقبة الزمنية التى يتحدث عنها ، هو ما يسميه الأصوليون بالقيد الأغلبى وهو مايغلب وجوده وليس له مفهوم ، بدليل ؛
ـ أن قول الله تعالى : وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) المؤمنون .
لا نفهم منه أن هناك إله باطل له برهان .
ـ وأن قول الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) آل عمران .
لا نفهم منه أنه يجوز أكل الربا القليل دون الأضعاف المضاعفة .
ـ وأن قول الله تعالى : وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) النور .
لا نفهم منه أنه يجوز إكراه الفتيات على الزنا إن لم يردن الزواج .
(4) أن هناك فرق بين القيام بالفعل وترك القيام به وكلاهما عمل ؛ لأن ترك العمل عمل ، فالتحاكم للطاغوت عمل ، و ترك التحاكم لله عمل ، وكل واحدة منهما كفر مستقل بذاته ، من أتى بواحدة منهما خرج من دائرة الإسلام .
مع ملاحظة أنه ليس بالضرورة أن يكون كل ترك للتحاكم لشرع الله كفر .
(5) أن من يقول بذلك يفترى على أئمة العلم الكذب فيأخذ ما يشتهيه ويترك ما لا يشتهيه ، فمن يُروِّج لهذه الشبهة يترك كلام ابن كثير فى نفس الموضع عند تفسيره لآيات سورة النساء المتقدمة عندما قال : "هذا إنكار من الله، عز وجل، على من يدّ عي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك يريد التحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله .. "، وعند تفسير الآية التى قبلها قال : "وقوله: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله ، وهذا أمر من الله، عز وجل، بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة ،كما قال تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [الشورى:10] فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، ولهذا قال تعالى: { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي: ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك ، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر ، وقوله: { ذَلِكَ خَيْرٌ } أي: التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله . والرجوع في فصل النزاع إليهما خير { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } أي : وأحسن عاقبة ومآلاً كما قاله السدي وغير واحد . وقال مجاهد : وأحسن جزاء . وهو قريب "اهـ .
__________________
ثالثا : بالنسبة للقول بأن المسلم الموحد فى هذه الأيام لا يطلب من الطاغوت إلا تطبيق شرع الله .. فباطل من وجوه :
الوجه الأول :-
قوله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ – مقام إسلام- ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ - مقام إيمان - وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا - مقام إحسان - (65) سورة النساء . فهذه الآية الكريمة اشتملت على مراتب الدين الثلاثة (الإسلام – الإيمان – الإحسان ) ... انظر شرح رسالة تحكيم القوانين نقلاً عن ابن القيم ..
لذا فتحكيم أى جهة يدل على اختيار هذه الجهة للتحاكم وهذا مقام الإسلام أو الكفر . أما رضا النفس وقبولها لهذا الحكم بعد القضاء فهذا مقام الإيمان أو النفاق . وأما الإذعان والتسليم المطلق لهذا الحكم عند التنفيذ فهذا مقام الإحسان أو القنوط من رحمة الرحمن ، ومن هنا كان مجرد الذهاب للطاغوت طلباً للتحاكم كفراً بالله وإيماناً بالطاغوت ، وذلك كُله قبل أن يَشْرع الطاغوت فى الحكم ، بدليل قول الله تعالى :
فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (42) المائدة . يقول ابن كثير فى تفسير هذه الآية (فإن جآءوك أى يتحاكمون إليك) فجعلهم متحاكمين قبل أن يفصل بينهم فى الحكم .
الوجه الثانى:-
أن المتحاكم للطاغوت لا يدرى أيصيب الطاغوت حكم الله أم يخطئه ، وعادة ما يخطئه ؛ لأن العدل عند الطاغوت ما تقرره قوانينه لا قوانين السماء . وإن وافق حكم الطاغوت حكم الله فى المسألة لا يجوز أن نسمى ما حكم به الطاغوت بأنه حكم الله ، ولكن يمكن أن نسميه موافقاً لحكم الله ؛ لأن ما كان موافقاً لحكم الله لا يسمى حكم الله ، مثلما نقول هذا كلام زيد وهذا ما يوافق كلام زيد ، فمعلوم أن هناك فرق بين كلام زيد نفسه وما يوافق كلام زيد .
مثال آخر : كان فى الجاهلية حرام على الإبن أن ينكح أمه أو أخته أو عمته أو خالته ، ثم أقر الإسلام ذلك فقال تعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ ... الآية .
فإن جاء من يحكم بحرمة نكاح هؤلاء ؛ إستناداً لعادات الجاهلية وأحكامها ، فهو بذلك طاغوت والتحاكم إليه تحاكم للطاغوت وإن جاء حكمه هذا موافقا لحكم الله .
قال ابن كثير رحمه الله : (( قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي ، حدثنا قُرَاد ، حدثنا ابن عيينة عن عمر، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يُحَرِّمون ما حرم الله ، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فأنزل الله: "وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ".. ، "وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ "وهكذا قال عطاء وقتادة )) اهـ { انظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير ، سورة النساء ، الآية 22 }.
الوجه الثالث :-
لا يستطيع أحد أن يجبر الطاغوت – إلا أن يشاء الله – على أن يحكم له بشرع الله ، لاسيما المسلم المستضعف فى دار الكفر ، كما أن الخصم الكافر الذى تُحَاكمهُ إلى الطاغوت ، له محاموه الحاذقين فى قلب الحقائق والتعامل مع قوانين الطاغوت والتحايل عليها ، وما أسهل التحايل على قوانين البشر !!
الوجه الرابع :-
أن المتحاكم للطاغوت هذا قد أقر بشرعية وجوده وتحكُّمه فى رقاب الناس ودمائهم وأموالهم كيف شاء وأنى شاء ، بل وخلع عليه صفة الإلوهية ، ووضع مقاليد أمره فى يده وتحت تصرفه وحكمه ، بل لا يخلو الأمر من أنه قد تولاه ورضى به وأذعن لسلطانه ورفض سلطان رب الأرض و السماوات ، سواء حدث ذلك بقصد منه أو بدون قصد .
فأى عبودية شر من خضوع الإنسان لما يُشَرِّعه له إنسان مثله ؟! ... وأى عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان مثله ؟! ... وأى عبودية شر من تعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ؟! ... وأى عبودية شر من أن توضع رقاب و أرواح وأموال إنسان تحت هوى وشهوات إنسان مثله ؟! .
رابعا : إن الذين يزعمون أنه يجوز للمرء أن يتحاكم إلى الطاغوت ، فى حالة عدم وجود حكومة مطبقة لشرع الله ، يلزمهم أن يقولوا :
لدينا نص من قرآن أو سنة أو إجماع يجيز ذلك ، أو أنه ليس هناك نص فيكون من باب المباح المسكوت عنه .. ونجيب عليهم بقولنا : أنه لا يوجد نص من كتاب أو سنة أو إجماع يجيز ذلك ، حتى إن أوَّلتُم بعض النصوص ـ كعادتكم ـ على إحدى الإحتمالات التى تخدم شهواتِكم وشبهاتِكم .. فنقول ما تطرق إليه الإحتمال بطل به الإستدلال ، خاصة والمقام مقام كفر وإيمان .. ثم إن ما سقناه لكم من أدلة وآيات فقطعى الدلالة قطعى الثبوت على كفر المتحاكم للطاغوت ، وإن انعدم وجود حكومة إسلامية تناسب سبب نزول النص ؛ لأن العبرة عند المسلمين سلفهم وخلفهم بدعيهم وسنيهم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
ـ فلا يبقى لكم إلا أن تقولوا : أنه من باب المسكوت عنه ، فنقول لكم : فما جوابكم عن قوله تعالى : "فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) النساء "، وكلمة شىء هنا ـ كما يقول أهل اللغة ـ جاءت نكرة فى سياق الشرط فتكون أعم كلمة فى اللغة ، فتشمل كل ما تنازع فيه جنسا وقدرا وكما وكيفا ، فإن أقررتم بهذا إقرار قلب ، فيلزمكم القول بأن ما أمرنا الله به من الإحتكام إلي كتابه وسنة رسوله فى كل شىء وأن نرد ما تنازعنا فيه من شىء إليهما يكون كله لغو (( تعالى الله عن ذلك )) ، بل سبحانه الذى نزل الكتاب تبيانا وتفصيلا لكل شىء .
ـ فإن أبيتم بعد كل هذا إلا الإستمرار على ضلالكم ، فما جوابكم عن دعوة يوسف عليه السلام لمن معه فى السجن إلى عدم التحاكم للطاغوت ، وكيف بَيَّن لهم يوسف الصديق عليه السلام أن التحاكم عبادة لا يجوز صرفها لغير الله ، قال تعالى : "إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يوسف " .. فهل كانت هناك حكومة إسلامية آنذاك فى مصر الفرعونية تطبق شرع الله !! ، أم أنه كانت هناك حكومة إسلامية تطبق شرع الله فى جزيرة العرب قبل الهجرة عندما نزل قول الله تعالى : "أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) الأنعام "يقول البغوى فى تفسيره لهذه الآية ما نصه : "قل لهم يا محمد أفغير الله، { أَبْتَغِي } أطلب { حَكَمًا } قاضيا بيني وبينكم "اهـ ، ومعلوم أن الآية مكية بل والسورة بكاملها مكية.
_______________
وقد فندنا القول بالتفصيل في رد الشبهات الوارده في قضية التحاكم
في كتاب "تنبيه الاسماع الي كفر من ذهب لمحاكم الطاغوت للدفاع "وهو موجود علي الصفحة
شبهــات وردود
ــــــــــــــــــــ
شبهـــات في قضيــة التحـــاكم الي الطــاغــوت
ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
الشبهــة الثانية
ـــــــــــــــــــــ
أن الإستضعاف العام فى ديار الكفر ينزل منزلة الضرورة المبيحة للكفر
وأكبر أدلتهم على ذلك : ما ذكره سلطان العلماء ( العز بن عبد السلام ) عندما قال : "الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : لَوْ عَمَّ الْحَرَامُ الْأَرْضَ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِيهَا حَلَالٌ جَازَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ ، وَلَا يَقِفُ تَحْلِيلُ ذَلِكَ عَلَى الضَّرُورَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَيْهَا لَأَدَّى إلَى ضَعْفِ الْعِبَادِ وَاسْتِيلَاءِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ .. إلى أن قال .. لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ كَالضَّرُورَةِ الْخَاصَّةِ "اهـ ( انظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ، قَاعِدَةٌ مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ ، جـ 2 ، صـ 282 ) .
_____________________
فنقول الله المستعان على ما تصفون ، والرد على شبهتكم هذه من وجوه :
الوجه الأول :
-----------
أنكم خلطتم بين الضرورة والإكراه ، فالضرورات تبيح المحظورات ، أما الشرك فلا يباح إلا فى حالة واحدة فقط ألا وهى الإكراه ، أدلـة ذلك :
قوله تعالى : "وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) الأنعام "
وقوله تعالى : "إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) البقرة " .. هذا فى حالة الضرورة المبيحة لتناول المحرم المحظور تناوله فى غير الضرورة .
أما فى حالة الكفر ، فقد قال الله تعالى : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) النحل .
وصح عن النبى صلي الله عليه وسلم أنه قال :"إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه "... أخرجه أحمد، وابن ماجة، والطبراني .
وقال ابن القيم رحمه الله : ( ولا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذن في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الإغراض إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان ). اهـ (انظر : أعلام الموقعين ، باب الذين يذكرون فى الحيل ، جـ 3 ، صـ 178 ) .
الوجه الثانى :
-------------
أنكم ما فهمتم كلام ( العز بن عبد السلام ) ، ولا تأخذوا من كلام العلماء إلا ما يوافق أهوائكم ويخدم شهواتكم ، أدلـة ذلك :
ـ أن ( العز بن عبد السلام ) يتحدث عن الضرورة التى تبيح تناول المُحرَّم من الغذاء والكِساء الذى يحفظ حياة الإنسان ـ لا يتحدث عن اقتراف الشرك والكفران فى مثل هذا الحال ـ خشية تلف النفس وهلاكها .
وهذا كلام العز بن عبد السلام ، بتمامه : "الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : لَوْ عَمَّ الْحَرَامُ الْأَرْضَ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِيهَا حَلَالٌ جَازَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ ، وَلَا يَقِفُ تَحْلِيلُ ذَلِكَ عَلَى الضَّرُورَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَيْهَا لَأَدَّى إلَى ضَعْفِ الْعِبَادِ وَاسْتِيلَاءِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَقْطَعُ النَّاسُ عَنْ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي تَقُومُ بِمَصَالِحِ الْأَنَامِ ، قَالَ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا يُتَبَسَّطُ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ كَمَا يُتَبَسَّطُ فِي الْمَالِ الْحَلَالِ بَلْ يُقْتَصَرُ عَلَى مَا تَمَسُّ إلَيْهِ الْحَاجَةُ دُونَ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَشُرْبِ الْمُسْتَلَذَّاتِ وَلُبْسِ النَّاعِمَاتِ الَّتِي هِيَ بِمَنَازِلِ التَّتِمَّاتِ ، وَصُوَرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَجْهَلَ الْمُسْتَحِقِّينَ بِحَيْثُ يَتَوَقَّعُ أَنْ يَعْرِفَهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَلَوْ يَئِسْنَا مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ لَمَا تَصَوَّرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ، وَإِنَّمَا جَازَ تَنَاوُلُ ذَلِكَ قَبْلَ الْيَأْسِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ ، لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ كَالضَّرُورَةِ الْخَاصَّةِ ، وَلَوْ دَعَتْ ضَرُورَةُ وَاحِدٍ إلَى غَصْبِ أَمْوَالِ النَّاسِ لَجَازَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا خَافَ الْهَلَاكَ لِجُوعٍ أَوْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ ، وَإِذَا وَجَبَ هَذَا لِإِحْيَاءِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، فَمَا الظَّنُّ بِإِحْيَاءِ نُفُوسٍ ، مَعَ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ قَدْ لَا يَكُونُ لَهَا قَدْرٌ عِنْدَ اللَّهِ ، وَلَا يَخْلُو الْعَالَمُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالصَّالِحِينَ ، بَلْ إقَامَةُ هَؤُلَاءِ أَرْجَحُ مِنْ دَفْعِ الضَّرُورَةِ عَنْ وَاحِدٍ قَدْ يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ. اهـ ( انظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ، قَاعِدَةٌ مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ ، جـ 2 ، صـ 282 ) .
ـ ثم إن ( العز بن عبد السلام ـ) يقرر فى نفس الكتاب ؛ أن مجرد تلفظ الكفر لا يُباح إلا عند الإكراه أو الحكاية ( كأن تُنبه من معتقد كفرى لشخص ما أو طائفة معينة فتذكره وترويه على سبيل الحكاية ) ، فيقول (( الْمِثَالُ الْأَوَّلُ : التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ لَكِنَّهُ جَائِزٌ بِالْحِكَايَةِ وَالْإِكْرَاهِ ، إذَا كَانَ قَلْبُ الْمُكْرَهِ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ )) اهـ (انظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ، فصل فى اجتماع المصالح مع المفاسد ، جـ1 ، صـ 156 ) .
الوجه الثالث :
------------
أن ننصحكم بأن تتفقهوا فى دين الله ، وألاَّ تقولوا على الله بغير علم ، وتعرفوا أن أهل العلم يفرِّقون بين الضرورات التى تبيح المعاصى وبشروط ، وبين الشرك بالله ،
ـ يقول ابن تيمية : "وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي فِعْلِ الْفَاحِشَةِ فَغَيْرُهَا مِنْ الذُّنُوبِ أَعْظَمُ مِثْلَ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ لِلْخَلْقِ كَقَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ وَمِثْلَ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ وَمِثْلَ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَهَذِهِ أَجْنَاسُ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي لَا تُبَاحُ بِحَالِ وَلَا فِي شَرِيعَةٍ وَمَا سِوَاهَا - وَإِنْ حَرُمَ فِي حَالٍ - فَقَدْ يُبَاحُ فِي حَالٍ . فَصْلٌ وَاخْتِيَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ وَلِأَهْلِهِ الِاحْتِبَاسَ فِي شِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ بِضْعَ سِنِينَ لَا يُبَايِعُونَ وَلَا يُشَارُونَ ؛ وَصِبْيَانُهُمْ يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجُوعِ قَدْ هَجَرَهُمْ وَقَلَاهُمْ قَوْمُهُمْ وَغَيْرُ قَوْمِهِمْ . هَذَا أَكْمَلُ مِنْ حَالِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَدْعُونَ الرَّسُولَ إلَى الشِّرْكِ وَأَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ . يَقُولُ : مَا أَرْسَلَنِي وَلَا نَهَى عَنْ الشِّرْكِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا } { وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } { إذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إلَّا قَلِيلًا } { سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا } . "اهـ ( انظر : مجموع الفتاوى ، كتاب التفسير ، فصل تفسير قوله تعالى "قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ "، جـ 3 ، صـ339 ) .
ـ ويقول أيضا رحمه الله : "وَالشَّرِيعَةُ تَأْمُرُ بِالْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ كَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ وَالْجِهَادُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَتْلُ النُّفُوسِ فَمَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ . وَفِتْنَةُ الْكُفْرِ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ الْقَتْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } وَنَهَى عَنْ الْمَفَاسِدِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ كَمَا نَهَى عَنْ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَعَنْ : "الْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُبِيحُهَا قَطُّ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ وَلَا فِي شِرْعَةٍ مِنْ الشَّرَائِعِ . وَتَحْرِيمُ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ . وَهَذَا الضَّرْبُ تُبِيحُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ فَوَاتِ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ الِاغْتِذَاءِ بِهِ "اهـ ( انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية ، فصل الزيارة وشد الرحال ، جـ 6، صـ 240 )
.............................. ......
ــــــــــــــــــــ
شبهـــات في قضيــة التحـــاكم الي الطــاغــوت
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الشبهــة الثانية
ـــــــــــــــــــــ
أن الإستضعاف العام فى ديار الكفر ينزل منزلة الضرورة المبيحة للكفر
وأكبر أدلتهم على ذلك : ما ذكره سلطان العلماء ( العز بن عبد السلام ) عندما قال : "الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : لَوْ عَمَّ الْحَرَامُ الْأَرْضَ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِيهَا حَلَالٌ جَازَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ ، وَلَا يَقِفُ تَحْلِيلُ ذَلِكَ عَلَى الضَّرُورَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَيْهَا لَأَدَّى إلَى ضَعْفِ الْعِبَادِ وَاسْتِيلَاءِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ .. إلى أن قال .. لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ كَالضَّرُورَةِ الْخَاصَّةِ "اهـ ( انظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ، قَاعِدَةٌ مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ ، جـ 2 ، صـ 282 ) .
_____________________
فنقول الله المستعان على ما تصفون ، والرد على شبهتكم هذه من وجوه :
الوجه الأول :
-----------
أنكم خلطتم بين الضرورة والإكراه ، فالضرورات تبيح المحظورات ، أما الشرك فلا يباح إلا فى حالة واحدة فقط ألا وهى الإكراه ، أدلـة ذلك :
قوله تعالى : "وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) الأنعام "
وقوله تعالى : "إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) البقرة " .. هذا فى حالة الضرورة المبيحة لتناول المحرم المحظور تناوله فى غير الضرورة .
أما فى حالة الكفر ، فقد قال الله تعالى : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) النحل .
وصح عن النبى صلي الله عليه وسلم أنه قال :"إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه "... أخرجه أحمد، وابن ماجة، والطبراني .
وقال ابن القيم رحمه الله : ( ولا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذن في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الإغراض إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان ). اهـ (انظر : أعلام الموقعين ، باب الذين يذكرون فى الحيل ، جـ 3 ، صـ 178 ) .
الوجه الثانى :
-------------
أنكم ما فهمتم كلام ( العز بن عبد السلام ) ، ولا تأخذوا من كلام العلماء إلا ما يوافق أهوائكم ويخدم شهواتكم ، أدلـة ذلك :
ـ أن ( العز بن عبد السلام ) يتحدث عن الضرورة التى تبيح تناول المُحرَّم من الغذاء والكِساء الذى يحفظ حياة الإنسان ـ لا يتحدث عن اقتراف الشرك والكفران فى مثل هذا الحال ـ خشية تلف النفس وهلاكها .
وهذا كلام العز بن عبد السلام ، بتمامه : "الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : لَوْ عَمَّ الْحَرَامُ الْأَرْضَ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِيهَا حَلَالٌ جَازَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ ، وَلَا يَقِفُ تَحْلِيلُ ذَلِكَ عَلَى الضَّرُورَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَيْهَا لَأَدَّى إلَى ضَعْفِ الْعِبَادِ وَاسْتِيلَاءِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَقْطَعُ النَّاسُ عَنْ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي تَقُومُ بِمَصَالِحِ الْأَنَامِ ، قَالَ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا يُتَبَسَّطُ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ كَمَا يُتَبَسَّطُ فِي الْمَالِ الْحَلَالِ بَلْ يُقْتَصَرُ عَلَى مَا تَمَسُّ إلَيْهِ الْحَاجَةُ دُونَ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَشُرْبِ الْمُسْتَلَذَّاتِ وَلُبْسِ النَّاعِمَاتِ الَّتِي هِيَ بِمَنَازِلِ التَّتِمَّاتِ ، وَصُوَرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَجْهَلَ الْمُسْتَحِقِّينَ بِحَيْثُ يَتَوَقَّعُ أَنْ يَعْرِفَهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَلَوْ يَئِسْنَا مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ لَمَا تَصَوَّرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ، وَإِنَّمَا جَازَ تَنَاوُلُ ذَلِكَ قَبْلَ الْيَأْسِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ ، لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ كَالضَّرُورَةِ الْخَاصَّةِ ، وَلَوْ دَعَتْ ضَرُورَةُ وَاحِدٍ إلَى غَصْبِ أَمْوَالِ النَّاسِ لَجَازَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا خَافَ الْهَلَاكَ لِجُوعٍ أَوْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ ، وَإِذَا وَجَبَ هَذَا لِإِحْيَاءِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، فَمَا الظَّنُّ بِإِحْيَاءِ نُفُوسٍ ، مَعَ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ قَدْ لَا يَكُونُ لَهَا قَدْرٌ عِنْدَ اللَّهِ ، وَلَا يَخْلُو الْعَالَمُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالصَّالِحِينَ ، بَلْ إقَامَةُ هَؤُلَاءِ أَرْجَحُ مِنْ دَفْعِ الضَّرُورَةِ عَنْ وَاحِدٍ قَدْ يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ. اهـ ( انظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ، قَاعِدَةٌ مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ ، جـ 2 ، صـ 282 ) .
ـ ثم إن ( العز بن عبد السلام ـ) يقرر فى نفس الكتاب ؛ أن مجرد تلفظ الكفر لا يُباح إلا عند الإكراه أو الحكاية ( كأن تُنبه من معتقد كفرى لشخص ما أو طائفة معينة فتذكره وترويه على سبيل الحكاية ) ، فيقول (( الْمِثَالُ الْأَوَّلُ : التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ لَكِنَّهُ جَائِزٌ بِالْحِكَايَةِ وَالْإِكْرَاهِ ، إذَا كَانَ قَلْبُ الْمُكْرَهِ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ )) اهـ (انظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ، فصل فى اجتماع المصالح مع المفاسد ، جـ1 ، صـ 156 ) .
الوجه الثالث :
------------
أن ننصحكم بأن تتفقهوا فى دين الله ، وألاَّ تقولوا على الله بغير علم ، وتعرفوا أن أهل العلم يفرِّقون بين الضرورات التى تبيح المعاصى وبشروط ، وبين الشرك بالله ،
ـ يقول ابن تيمية : "وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي فِعْلِ الْفَاحِشَةِ فَغَيْرُهَا مِنْ الذُّنُوبِ أَعْظَمُ مِثْلَ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ لِلْخَلْقِ كَقَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ وَمِثْلَ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ وَمِثْلَ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَهَذِهِ أَجْنَاسُ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي لَا تُبَاحُ بِحَالِ وَلَا فِي شَرِيعَةٍ وَمَا سِوَاهَا - وَإِنْ حَرُمَ فِي حَالٍ - فَقَدْ يُبَاحُ فِي حَالٍ . فَصْلٌ وَاخْتِيَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ وَلِأَهْلِهِ الِاحْتِبَاسَ فِي شِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ بِضْعَ سِنِينَ لَا يُبَايِعُونَ وَلَا يُشَارُونَ ؛ وَصِبْيَانُهُمْ يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجُوعِ قَدْ هَجَرَهُمْ وَقَلَاهُمْ قَوْمُهُمْ وَغَيْرُ قَوْمِهِمْ . هَذَا أَكْمَلُ مِنْ حَالِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَدْعُونَ الرَّسُولَ إلَى الشِّرْكِ وَأَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ . يَقُولُ : مَا أَرْسَلَنِي وَلَا نَهَى عَنْ الشِّرْكِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا } { وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } { إذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إلَّا قَلِيلًا } { سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا } . "اهـ ( انظر : مجموع الفتاوى ، كتاب التفسير ، فصل تفسير قوله تعالى "قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ "، جـ 3 ، صـ339 ) .
ـ ويقول أيضا رحمه الله : "وَالشَّرِيعَةُ تَأْمُرُ بِالْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ كَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ وَالْجِهَادُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَتْلُ النُّفُوسِ فَمَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ . وَفِتْنَةُ الْكُفْرِ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ الْقَتْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } وَنَهَى عَنْ الْمَفَاسِدِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ كَمَا نَهَى عَنْ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَعَنْ : "الْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُبِيحُهَا قَطُّ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ وَلَا فِي شِرْعَةٍ مِنْ الشَّرَائِعِ . وَتَحْرِيمُ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ . وَهَذَا الضَّرْبُ تُبِيحُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ فَوَاتِ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ الِاغْتِذَاءِ بِهِ "اهـ ( انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية ، فصل الزيارة وشد الرحال ، جـ 6، صـ 240 )
..............................
الشبهــة الثالثة
ـــــــــــــــــــ
أن الإيمان الباطن لا يزول بمجرد مخالفات الظاهر :
فتقولون أن الموحد المعلوم حاله لدينا لا يجوز تكفيره بمجرد هذا العمل الظاهرى ، والرد على هذه الشبهة من وجوه :
______________________________
الوجه الأول : أنكم تتجاهلون أن الأسلمة والتكفير حكمان شرعيان ،
فكما يحكم المسلم بالإسلام على من نطق بالشهاده محققا لشروطها واركانها، كذا يحكم بالكفر على من ارتكب ناقضا من نواقضها بقصد أو بدون قصد ،
يقول ابن تيمية ( الصارم المسلول 1 / 184 ) ما نصه : "و بالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفر بذلك و إن لم يقصد أن يكون كافرا إذ لا يقصد الكفر أحدٌ إلا ما شاء الله "اهـ .
ثم تجهلون أو تتجاهلون أن إجماع أهل القبلة على أن "الأحكام يُعمل فيها بالظواهر والله يتولى السرائر " ( صحيح مسلم للنووى 3 / 107 ) .. أدلة ذلك :
ـ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (( إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ .. )) حديث متفق عليه .
أخرجه البخاري في: كتاب المغازي ، باب بعث علي ابن أبي طالب عليه السلام وخالد بن الوليد رضي الله عنه إلى اليمن قبل حجة الوداع
وأخرجه مسلم فى : كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم .
ـ قول النبى صلى الله عليه وسلم لأسامة : (( أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لاَ )) .. صحيح مسلم .
ـ ما رواه البخارى عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : (( إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ )) ... صحيح البخارى .
-قال ابن حزم في الفصل (3/253) في الحكم بمقتضي الظاهر:
(لو أن إنساناً قال: إن محمداً - عليه الصلاة والسلام - كافر وكل من تبعه كافر وسكت، وهو يريد كافرون بالطاغوت كما قال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} [البقرة: 256]، لما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر.
وكذلك لو قال إن إبليس وفرعون وأبا جهل مؤمنون، لما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر، وهو يريد أنهم مؤمنون بدين الكفر.."اهـ.
_________________
الوجه الثانى : أن الذى يتحاكم لغير شرع الله أو لمن يحكم باسم غير الله ( الشعب ـالأمة ـالقانون ـ الدستور....) فظاهر فعله التحاكم للطاغوت والكفر بالله ،
وادعائه الإيمان بالله ورسله أو أنه كافر بالطاغوت فدعاوى باطلة يكذبها ظاهر فعله ويكذبها صريح الآيات المنزلة من عند رب الأرض والسماوات.
قال تعالي :أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) النساء.
وأهل العلم متفقون على أنه إذا تعارض ظاهر إيمان مع ظاهر شرك أكبر يُحكم بالشرك إذ لايجتمع شرك مع إيمان فى قلب عبد أصلا . ومتفقون كذلك على أننا أمُرنا بالحكم بالظاهر ونهينا عن الظن واتباع ماليس لنا به علم .
ـ قال ابن تيمية : (( فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامداً لها عالماً بأنها كلمة كفر فإنه يكفر بذلك ظاهراً وباطناً ولأنا لا نُجوِّز أن يقال : إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمناً و من قال ذلك فقد مرق من الإسلام قال سبحانه : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و لكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله و لهم عذاب عظيم } [ النحل : 106 ] )) اهـ ( الصارم المسلول 3 / 95 ) .
ـ ويقول أيضا : "و ذلك لأن الإيمان و النفاق أصله في القلب و إنما الذي يظهر من القول و الفعل فرع له دليل عليه فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه " ( الصارم المسلول 1 / 34 )
ـ يقول ابن أبى العز الحنفى : "لأنا قد أُمرنا بالحكم بالظاهر ، ونُهينا عن الظن واتباع ما ليس لنا به علم "اهـ ( شرح العقيدة الطحاوية 1 / 363 ) .
_______
الوجه الثالث : أن عملية التحاكم من أصول الإيمان التى يُحكم فيها بالظاهر دون الباطل :
ولا غضاضة فى أن نعيد ، ذكر كلام العراقى والتعليق عليه فقلنا :
جاء فى تَقْرِيبَ الْأَسَانِيدِ وَتَرْتِيبَ الْمَسَانِيدِ : "قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيُّ جَاءُوا مُحَكِّمِينَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَمُخْتَبِرِينَ فِي الْبَاطِنِ هَلْ هُوَ نَبِيُّ حَقٍّ أَوْ مُسَامِحٌ فِي الْحَقِّ فَقَبِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إفْتَاءَهُمْ وَتَأَمَّلَ سُؤَالَهُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْكِيمَ جَائِزٌ فِي الشَّرْعِ انْتَهَى" ( تَقْرِيبَ الْأَسَانِيدِ وَتَرْتِيبَ الْمَسَانِيدِ ، زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعِرَاقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، جـ 8 ، صـ152 )
فتأمل عقيدة أهل العلم والتحقيق ، رزقك الله الفهم والتوفيق ، فهذا الإمام العَلم أبو بكر بن العربى القرطبى الأندلسى ، قاضى قضاة الأندلس فى زمانه ، المتوفى فى القرن السادس الهجرى ، يبرهن بجلاء على فساد معتقد أهل الكفر والإرجاء ، فيقول رحمة الله عليه ، مُفسِّراً لحال اليهود الذين نزل فيهم قول الله تبارك وتعالى : "وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) سورة المائدة " .. أقول تأمل أرشدك الله ، كيف
قال عنهم ابن العربى: جَاءُوا مُحَكِّمِينَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَمُخْتَبِرِينَ فِي الْبَاطِنِ .. أى أن حقيقة أمرهم التى أضمروها فى مكنون نفوسهم اختبار هذا النبى لا التحاكم إليه إذ أن حكم المسألة ثابت عندهم فى التوراة ، ورغم ذلك وصفهم الله سبحانه وتعالى بظاهر فعلهم وهو أنهم متحاكمين ومحكمين.
الشبهــة الرابعــة
ـــــــــــــــــــــــــ
أن الله أمرنا بالمحافظة على الضرورات الخمس ، ومنها المال والعرض و..
________
وهذه الشبهة آكد دليل على فساد معتقد هؤلاء القوم وضحالة عقولهم ؛ لوجوه :
الوجه الأول : ـ
أن أبوجهل وأتباعه قد سبقوهم بها ، حينما قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : "إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُم...ْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) القصص " .
الوجه الثانى : ـ
أن يعلم المسلم الناصح لنفسه أن حب الدنيا وما فيها من ملذات والخوف على ضياع ما في اليد من متاع ذائل ، هو سبب كفر معظم المشركين ، كما أنه ليس عذر فى كفر الكافرين .
قال تعالى : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) .. سورة النحل .
وقال تعالى : فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) .. سورة المائدة .
الوجه الثالث : ـ
أن أول ضرورة كلفنا الله بالمحافظة عليها هى الدين ( الدين ثم النفس ثم العقل فالعرض فالمال ) ، وهى أول شىء يُسأل عنه العبد فى قبره "من ربك ، وما دينك ، وما النبى الذى بعث فيكم "، وأن أعظم وأجل مسألتين يُسأل عنهما الأولون والآخرون يوم القيامة هما : ماذا كنتم تعبدون ؟ وماذا أجبتم المرسلين ؟ .. ( انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية جزء التفسير سورة هود ، زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم جـ1 المقدمة ، تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي صـ 88 ، الصارم المنكى لابن عبد الهادى صـ 241 ، الرسائل الشخصية لابن عبد الوهاب الرسالة 25) .. فمن المعلوم ضرورة أنه لا أعظم مصلحة من مصلحة الحفاظ على الدين والدفاع عنه وهذا مجمع عليه بين جميع أهل الملل ( انظر : الموافقات للشاطبى ، المقدمة الثالثة ، جـ 1 ، صـ 38 ) .
ومن المجمع عليه كذلك أن الكفر لا يباح إلا عند الإكراه كما قال تعالى {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النحل:106] ، قال ابن القيم رحمه الله (( ولا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذن في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الإغراض إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان )) اهـ .
الوجه الرابع : ـ
أن الذى يُقِّر بأن التحاكم عبادة لا يجوز صرفها لغير الله ، ثم يجادل بهذه الشبهة .. يلزمه أن يقول بأن المسلم فى ديار الكفر إذا خُيير بين أن يستغيث بغير الله أو يُقدِّم قرابين لغير الله أو يدعوا غير الله ، وبين أن يُرد عليه ماله الذى اغتصب أو سرق منه ، فعليه أن يختار هذا الكفر فى سبيل المحافظة على ماله .
الوجه الخامس : ـ
عليك أن تتأمل قول الله تعالى : "ألمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) النساء " ..
ثم انظر لحال القوم ، فهم يقولون يريد الله منا المحافظة على أموالنا وأعراضنا و سيسألنا عنها يوم القيامة ، ونسى هؤلاء أنها إرادة الشيطان ، فالله عز وجل لما أمرنا بالمحافظة على هذه الأمور شرع لنا الطريقة التى نحافظ بها على تلك الأمور ، والتى لا تتصادم مع حكمه وشرعه ودينه .. ثم انظر إليهم تجدهم يسمون ذلك ( طلب حق ) والله يسميه ( ضلالاً بعيداً ) ، فنقول لهم كما قال ربنا : "قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ "ونقول لهم أيضا : "إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) النجم " .
ثم أعلم أرشدك الله إلى دين الأنبياء والمرسلين أن أوجب حق علي العبد فى هذه الحياة الدنيا هو عبادة الله وحده لا شريك له والذى يتضمن إفراد الله جل شأنه بالحكم والتحاكم ، فهنيئا لمن سعى وجاهد هذا الحق ، وتعسا لمن تقاعس عن تحصيل هذا الحق ، يقول ابن القيم رحمه الله : "لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ ، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم وظلمة في قلوبهم وكدر في أفهامهم ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى ربي فيها الصغير ، وهرم عليها الكبير ، فلم يروها منكرا "اهـ ( انظر الفوائد ، )
الشبهــة الخامســة
ــــــــــــــــــــــــــــ
قول محمد صلى الله عليه وسلم عن حلف من أحلاف الجاهلية "لو دعيت لمثله فى الإسلام لأجبت "
وقول يوسف عليه السلام : "هى راودتنى عن نفسى "، وكذا قوله "ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة التى قطعن أيديهن "
______________________________
يرى البعض أن هذا الحلف الذى يتحدث عنه الرسول صلى الله عليه وسلم تتوفر فيه عناصر الحكم والتحاكم من فض للنزاعات بين الظالم والمظلوم ، وأن القائمين على هذه المهمة هم من أكابر المشركين ، وبالتالي لا يجوز لأحدٍ ـ إلا إذا آثر الكفر على الإيمان ـ أن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر التحاكم إلى الطاغوت ؛ لأن القائمين على حلف المطيبين كانوا من الكفار المشركين .. كما أن قول يوسف لما اتهمته امرأة العزيز بقولها: ( ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم .... ، قال هي راودتني عن نفسي، وشهد شاهدٌ من أهلها…) من باب التحاكم للطاغوت .
_______
وللرد على هذه الشبه نقول : الله المستعان على ما تصفون ، وسيكون تفنيد هذا الهراء والإجتراء على مقام الأنبياء من وجهين أحدهما مجمل والآخر مفصل :
الرد المجمل :
أن المجادل بهذا الكلام ، يجهل أو ربما يتجاهل ـ إن كان من أئمة الضلال ـ الفرق بين التظلم والتحاكم (نذكر ملخصه هنا) ،
ـ فالتظلم هو / طلب رفع الظلم عن النفس أو عن الغير من ذوى السلطان والولاية ، وهو ما يسمى بـ "الاستعانة على تغيير المنكر "
ـ أما التحاكم ـ فهو / طلب حكم جهة معينة ؛ لفض خصومة أو مظلمة.
مما سبق نفهم أمرين :
الأمر الأول : أن التحاكم عملية تتم عقب عملية التظلم ، بمعنى أن التحاكم ليس إلا طلب الحكم فى التظلم .
الأمر الثانى : هناك فرق بين طلب دفع أورفع المظلمة ، وبين طلب الحكم فى هذه المظلمة .
الرد المُفصَّل :
أولاً / بالنسبة لحلف الفضول : يتحدث عن التظلم لا التحاكم ، شواهد ذلك ؛
ـ ما ذكره الإمام البيهقى رحمه الله عندما قال : "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن أنكثه وأن لى به حمر النعم ولو أدعى به في الاسلام لأجبت - (قال القتيبى) فيما بلغني عنه وكان سبب الحلف ان قريشا كانت تتظالم بالحرم فقام عبد الله بن جدعان والزبير ابن عبد المطلب فدعوهم إلى التحالف على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم فأجابهما بنو هاشم وبعض القبائل من قريش "اهـ ( انظر / السنن الكبرى للبيهقى ، جـ6 ، صـ 367 ) .
ـ وقال أيضا : "قال أحمد : وكان سبب الحلف فيما زعم أهل التواريخ ، أن قريشا كانت تتظالم بالحرم ، فقام عبد الله بن جدعان ، والزبير بن عبد المطلب ، فدعوا إلى التحالف على التناصر ، والأخذ للمظلوم من الظالم ، فأجابهما بنو هاشم ، وبعض القبائل من قريش ". اهـ ( انظر : معرفة السنن والآثار للبيهقى ، جـ 11 ، صـ 134 ).
ـ وقال ابن كثير رحمه الله : "و كان حلف الفضول أكرم حلف سمع به و أشرفه في العرب و كان أول من تكلم به و دعا إليه الزبير بن عبد المطلب و كان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن و ائل فحبس عنه حقه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف عبد الدار و مخزوما و جمحا و سهما و عدي بن كعب فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل و زبروه ـ أي انتهروه ـ فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس و قريش في أنديتهم حول الكعبة فنادى بأعلى صوته :
( يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار و النفر )
( و محرم أشعث لم يقض عمرته . يا للرجال و بين الحجر و الحجر )
( إن الحرام لمن تمت كرامته ... و لا حرام لثوب الفاجر الغدر )
فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب و قال : ما لهذا مترك .. فاجتمعت هاشم وزهرة و تيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما و تحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام فتعاقدوا و تعاهدوا بالله ليكونن يدا و احدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة و مارسي ثبير و حراء مكانهما و على التآسي في المعاش ، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول و قالوا : لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه "أهـ . ( انظر : سيرة ابن كثير ـ باب سبب حلف الفضول ـ جـ1 ص 259 ) .
ثم إنك إذا تأملت نص حديث النبى صلى الله عليه وسلم ، عندما قال عن حلف الفضول : "وَلَوْ دُعِيت بِهِ الْيَوْم فِي الْإِسْلَام لَأَجَبْت "انظر فتح البارى لابن حجر،كتاب الحوالات ، ( بَاب قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) ) .. لأفادك فائدتين هما :
الفائدة الأولى : أنِّ ( لو ) حرف امتناع لامتناع. أي: تدل على امتناع الثاني لامتناع الأول ، كما يقول جمهور أهل اللغة . ( انظر : الجنى الداني في حروف المعاني ، الحسن بن القاسم المرادي ت749)، تحقيق فخر الدين قباوة، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان ط1، صـ 105).. أى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعقد مثل هذا الحلف ، ولم يُدعى إلى عقده .
الفائدة الثانية : أنَّ (دُعِيت) فعل ماضى مبنى للمجهول ، يدُل على أن النبى صلى الله عليه وسلم لو دُعى إلى هذا الحلف لأجاب ، فتكون إجابته صلى الله عليه وسلم بذلك تشريعاً ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم المُشرِّع عن ربه ، وهذا بنص التنزيل ، قال تعالى : "وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) سورة الحشر " .. ويؤكِد هذا قول النبى صلى الله عليه وسلم "الْيَوْم فِي الْإِسْلَام "، فهذه عبارة تفيد التخصيص ، أى أن تكون الدعوة إلى هذا الحلف أو لمثله اليوم فى الإسلام ، أى فى وقت وزمن وجود النبى صلى الله عليه وسلم .
______________________________
ثانيا : بالنسبة لقول يوسف عليه الصلاة والسلام ( هى راودتنى عن نفسى ) ، وقوله ( ارجع إلى ربك فاسأله مابال النسوة اللاتى قطعن أيديهن ) ،
ليس إلا محاولة منه عليه السلام لدفع التهمة عن نفسه فى المرة الأولى ، وإظهار برائة عرضه ونزاهته فى المرة الثانية ، وهذا قد يتعرض له أي مسلم في حياته اليومية ، فيتوجب عليه الكلام ليدفع عن نفسه الكذب والافتراء . وهذا ما يسمى ـ شرعاً وعرفاً وعقلاً ولغةً ـ بدفع الظلم لا طلب الحكم .. وما أشبه ذلك بموقف أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام مع قومه ، قال تعالى : "قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) الأنبياء "، ..ومن ثم فلم يبق للقوم إلا أن يترددوا بين ضلالتين هما :
الضلالة الأولى : أن يقولوا أن يوسف عليه السلام تحاكم للطاغوت وهذا جائز عند الضرورة ، ثم يقولون ونحن إذا تعرضنا لمثل هذا لا نتحاكم ونصبر ورعا واتقاءا للشبهات .. وهذا كلام فاسد يصل بصاحبه إلى الكفر ؛ لأنه يتضمن إلحاق وصف الكفر ـ وهو التحاكم للطاغوت ـ بنبى من أنبياء الله ، كما يتضمن تزكية النفس وتفضيلها على مقام النبوة .
الضلالة الثانية : أن يقولوا نحن نوافقكم ، فيوسف عليه السلام فى هاتين الحالتين ( يطلب حقه ) وليس ( يتحاكم للطاغوت ) وهذا ما نفعله نحن اليوم عندما نذهب لمحاكم الطاغوت ، والجواب : أنكم بهذا الزعم الفاسد حاولتم الهروب مما فيه وقعتم وحكمتم على أنفسكم بالكفر أيضا .
بيان ذلك : أنكم تقولون ( أن يوسف عليه السلام يطلب حقه كما نفعل اليوم عندما نذهب لمحاكم الطاغوت ) ، ومعلوم أن هذا تكذيب لنص القرآن ولفعل يوسف عليه السلام ، فيوسف عليه السلام لم يطلب حقه ممن ظلمه ، كما أنه لم يطلب أن يُرَد له اعتباره ـ كما يحدث اليوم فى محاكم الطاغوت ـ ،ولم يطلب الطعن في الحكم - كما يفعل في المحاكم اليوم – عندما حُكِمَ عليه بالسجن ظلماً ، الأمر الذي أوجب له المكوث في السجن بضع سنين ظلماً ، بل صبر عليه السلام لحكم الله لعلمه أن الحكم في حقيقته بيد الله وحده ، ولهذا قال عليه السلام : { رب السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه} الآية ، فيوسف عليه السلام كان حريصاً كل الحرص كما هو معلوم على أن لا يتحاكم إلى غير شريعة الله عز وجل ، فهو يعلم أحكام الجاهلية والطواغيت ولا يمكن أن يتحاكم إليها أو يقبل أو يطلب أو يقر بأي جزئية منها ، وذلك تجده واضحاً جلياً في قوله تعالى : {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} الآية . ودين الملك هنا المراد حكمه وشريعته كما قال أهل التفسير .
ــــــــــــــــــــــــ