
د.ماجد كارم
هل يقع الكفر من غير جحود او استحلال ؟؟
اجمع سلفنا الصالح أهل السنة والجماعة على أن الكفر وكما يكون بالقلب فإنه يكون بالقول كالاستهزاء الصريح بالدين مثلا، ويكون بالفعل كالسجود للأصنام والشمس والقمر والذبح لغير الله، والأدلة من الكتاب والسنة صريحة في كفر من أتى مكفرا أيآ كان سببه وذلك بمجرد القول أو الفعل دون ربط ذلك بالجحود أو الاستحلال،
فإن هذا الربط فاسد لم يقل به أحد من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ولا الأئمة المعروفين بالسنة.
ومن المعلوم لمن تصفح القرآن الكريم والسنة المطهرة أن الله تعالى قد أكفر أقواما في عدة مواضع من قرآنه بمجرد كلمة قالوها، ولم يذكر سبحانه في هذه المواضع سببا لكفرهم غير الذي قالوه بأفواههم، ولم يعلق تبارك وتعالى وهو الحكيم العليم بالبواطن والظواهر الكفر على عمل القلب من جحود أو استحلال للكفر.
فقال تعالى (ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم)، وقد ورد أن هذه الآية نزلت في الجلاس ابن سويد بن الصامت ووديعة ابن ثابت وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: والله لئن كان محمدا صادقا على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير، فقال له عامر ابن قيس: أجل والله إن محمدا لصادق مصدق وإنك لشر من حمار، وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وجاء الجلاس فحلف بالله عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم إن عامرا لكاذب وحلف عامر لقد قال وقال: اللهم أنزل على نبيك الصاديق شيئا فنزلت، وقيل: إنها نزلت في عبد الله بن أُبَيّ رأى رجلا من غفار يتقاتل مع رجل من جهينة وكانت جهينة حلفاء الأنصار فعلا الغفاري الجهني فقال ابن أبي: يا بني الأوس والخزرج انصروا أخاكم، فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فجاءه عبد الله بن أبي فحلف أنه لم يقله، قاله قتادة، وقول ثالث: أنه قول جميع المنافقين قاله الحسن، قال ابن العربي: وهو الصحيح.
وقوله تعالى (ولقد قالوا كلمة الكفر) قيل: كلمة الكفر قول الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشر من الحمير، وقول عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، (وكفروا بعد إسلامهم) دلالة واضحة على أنهم كانوا مسلمين قبل قيلهم هذا وأنهم كفروا بمجرد هذا القول
وقال تعالى في قصة الرجلين المذكورين في سورة الكهف أن أحدهما قال حينما دخل جنته (ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا) فرد عليه صاحبه قائلا (أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) فأكفره صاحبه بكلمة قالها دون ذكر لعقيدة القلب ولو كان تكفير الرجل لصاحبه باطلا لرده الله تعالى وأبطله، فلما لم يبطله تعالى علم أنه حكم صحيح لا غبار عليه، ولذلك قال في آخر هذه الآيات (وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا)
ولذلك ذكر الشوكاني رحمه الله إن صاحب الجنة كفر بهذه الكلمة، فقال: (قال له صاحبه) أي قال للكافر صاحبه المؤمن حال محاورته له منكرا عليه ما قاله (أكفرت بالذي خلقك من تراب) بقولك (ما أظن الساعة قائمة)،
وقال تعالى أيضا في بيان أن الكفر يكون بالكلمة فقط ولا يشترط فيه عمل القلب من جحود أو غيره (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)، ومن المعلوم أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يظهرون الإسلام ويحكم لهم به في أحكام الدنيا، وقد أثبت الله لهم ذلك بقوله (قد كفرتم بعد إيمانكم)، وأن هؤلاء القوم ما زادوا على كلمة قالوها على وجه التسلية وإشغال الوقت، فقد قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، وما قصدوا الكفر بقلوبهم بدليل أنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : سمر كنا نقطع به الطريق، فأكفرهم الله تعالى بذلك وحكم عليهم بالكفر بعد الإيمان، وهذا بيان واضح لمن كان له قلب يفهم ويعي به أن الكفر كما يكون بالقلب يكون أيضا بالعمل المجرد ويكون أيضا بالكلمة التي تخرج من الفم ولا تعلق لها بالقلب.
وفي بيان السبب في قول من أرجع الكفر وعلقه على عمل القلب قال ابن تيمية رحمه الله: ومن هنا يظهر خطأ قول جهم بن صفوان ومن اتبعه حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، ولم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمنا كامل الإيمان بقلبه، وهو مع هذا يسب الله ورسوله ويعادي الله ورسوله ويعادي أولياء الله ويوالي أعداء الله ويقتل الأنبياء ويهدم المساجد...إلى قوله رحمه الله: قالوا: هذه كلها معاصٍ لا تنافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن، قالوا: وإنما نثبت له في الدنيا أحكام الكفار لأن هذه الأقوال أمـارة على الكفـــر...إلى أن قال رحمـه الله:
فإذا أورد عليهم الكتاب والسنة والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر في نفس الأمر معذب في الآخرة قالوا: فهذا دليل على انتفاء التصديق والعلم من قلبه. اهـ
وقد قال ابن حزم في كلامه على قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم ليعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون): فها نص جلي وخطاب للمؤمنين بان إيمانهم قد يبطل جملة وأعمالهم تحبط برفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم دون جحد منهم أصلا، ولو كان منهم جحد لشعروا به والله تعالى أخبرنا بان ذلك يكون وهم لا يشعرون. اهـ
وقد ذكر علماؤنا الكرام أنواعا من الأعمال المكفرة ولم يشترطوا لها جحود القلب أو استحلاله، وذلك مثل ما نقله ابن كثير رحمه الله من الإجماع على كفر من بدل أحكام الله تعالى حيث قال رحمه الله فيمن ترك حكم الله تعالى وحكم بغيره:
"فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين،"
قال تعالى (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) وقال تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما). اهـ
وقال أيضا رحمه الله في تفسير آية المائدة السابقة: ينكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله...إلى قوله رحمه الله: فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير. اهـ
وقد ذكر العلماء في كتبهم بعض الأقوال والأفعال المكفرة، ونحن نذكر طرفا منها لنبين أن الردة لا تقتصر فقط على اعتقاد القلب أو على الجحود أو الاستحلال، وإنما تكون بكل قول أو فعل حكم الشارع على فاعله أو قائله بالكفر.
وفي بيان أمثلة للردة بالأقوال اخترت من ذلك ما ذكره أبو بكر الحصني الشافعي حيث قال رحمه الله: فكما إذا قال شخص عن عدوه لو كان ربي ما عبدته فإنه يكفر، وكذا لو قال لو كان نبيا ما آمنت به، أو قال عن ولده أو زوجته هو أحب إلي من الله، أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا لو قال مريض بعد أن شُفي لقيت في مرضي هذا ما لو قتلت أبا بكر وعمر لم أستوجبه، فإنه يكفر، ولو قيل له قلم أظافرك، أو قص شاربك فإنه سنة، فقال لا أفعل إن كان سنة كفر قاله الرافعي عن أصحاب أبي حنيفة وتبعهم، ولو تقاول شخصان فقال أحدهما: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال الآخر لا حول ولا قوة إلا بالله لا تغني من جوع كفر، ولو سمع أذان المؤذن فقال إنه يكذب كفر، ولو قال لا أخاف القيامة كفر، ولو ابتلي بمصائب فقال أخذ مالي وولدي وكذا وكذا وماذا يفعله أيضا وما بقي ما يفعل كفر، ولو ضرب غلامه وولده فقال له شخص ألست بمسلم، فقال لا متعمدا كفر. اهـ
أمثلة معاصــــــره
----------------
ومن الأمثلة الصارخة على الردة بالأقوال في زماننا هذا قول بعض العلمانيين ـ ممن يزعمون أنهم من أهل الفكر والمثقفين ـ إن دين الإسلام لا يصلح للتطبيق في هذا الزمان، أو أنه رجعية وتخلف، أو أنه قانون قد عفى عليه الزمان، أو أنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، أو ما شابه ذلك من الأقوال التي انتشرت في زماننا هذا من بعض ممن ينتسب إلى الإسلام زورآ ، ومن ذلك أيضا سب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو دينه أو الاستهزاء بالمسلمين بسبب دينهم أو وصف الحجاب الشرعي بأنه خيمة أو بما يشعر بعدم الرضى بحكم الله تعالى، فكل هذه الأقوال مكفرة لقائلها مخرجة له من ملة الإسلام، فليحذر كل امرئ لنفسه وكل امرئ حسيب نفسه.
وفي الردة بالأفعال قال أبو بكر الحصني أيضا بعد كلامه السابق: وأما الكفـر بالفعل كالسجود للصنم والشمس والقمر، وإلقاء المصحف في القاذورات، والسحر الذي فيه عبادة الشمس، وكذا الذبح للأصنام، والسخرياء باسم من أسماء الله تعالى أو بأمره أو وعيده، أو قراءة القرآن على ضرب الدف، وكذا لو كان يتعاطى الخمر والزنا ويقدم اسم الله تعالى استخفافا فإنه يكفر،
ونقل الرافعي عن أصحاب أبي حنيفة أنه لو شد الزنار على وسطه كفر، قال: واختلفوا فيمن وضع قلنسوة المجوس على رأسه والصحيح أنه يكفر، ولو فعل فعلا أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان مصرحا بالإسلام مع فعله كالسجود للصليب أو المشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم من الزنانير وغيرها فإنه يكفر. اهـ
__________________________
اجمع سلفنا الصالح أهل السنة والجماعة على أن الكفر وكما يكون بالقلب فإنه يكون بالقول كالاستهزاء الصريح بالدين مثلا، ويكون بالفعل كالسجود للأصنام والشمس والقمر والذبح لغير الله، والأدلة من الكتاب والسنة صريحة في كفر من أتى مكفرا أيآ كان سببه وذلك بمجرد القول أو الفعل دون ربط ذلك بالجحود أو الاستحلال،
فإن هذا الربط فاسد لم يقل به أحد من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ولا الأئمة المعروفين بالسنة.
ومن المعلوم لمن تصفح القرآن الكريم والسنة المطهرة أن الله تعالى قد أكفر أقواما في عدة مواضع من قرآنه بمجرد كلمة قالوها، ولم يذكر سبحانه في هذه المواضع سببا لكفرهم غير الذي قالوه بأفواههم، ولم يعلق تبارك وتعالى وهو الحكيم العليم بالبواطن والظواهر الكفر على عمل القلب من جحود أو استحلال للكفر.
فقال تعالى (ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم)، وقد ورد أن هذه الآية نزلت في الجلاس ابن سويد بن الصامت ووديعة ابن ثابت وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: والله لئن كان محمدا صادقا على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير، فقال له عامر ابن قيس: أجل والله إن محمدا لصادق مصدق وإنك لشر من حمار، وأخبر عامر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وجاء الجلاس فحلف بالله عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم إن عامرا لكاذب وحلف عامر لقد قال وقال: اللهم أنزل على نبيك الصاديق شيئا فنزلت، وقيل: إنها نزلت في عبد الله بن أُبَيّ رأى رجلا من غفار يتقاتل مع رجل من جهينة وكانت جهينة حلفاء الأنصار فعلا الغفاري الجهني فقال ابن أبي: يا بني الأوس والخزرج انصروا أخاكم، فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فجاءه عبد الله بن أبي فحلف أنه لم يقله، قاله قتادة، وقول ثالث: أنه قول جميع المنافقين قاله الحسن، قال ابن العربي: وهو الصحيح.
وقوله تعالى (ولقد قالوا كلمة الكفر) قيل: كلمة الكفر قول الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشر من الحمير، وقول عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، (وكفروا بعد إسلامهم) دلالة واضحة على أنهم كانوا مسلمين قبل قيلهم هذا وأنهم كفروا بمجرد هذا القول
وقال تعالى في قصة الرجلين المذكورين في سورة الكهف أن أحدهما قال حينما دخل جنته (ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا) فرد عليه صاحبه قائلا (أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا) فأكفره صاحبه بكلمة قالها دون ذكر لعقيدة القلب ولو كان تكفير الرجل لصاحبه باطلا لرده الله تعالى وأبطله، فلما لم يبطله تعالى علم أنه حكم صحيح لا غبار عليه، ولذلك قال في آخر هذه الآيات (وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا)
ولذلك ذكر الشوكاني رحمه الله إن صاحب الجنة كفر بهذه الكلمة، فقال: (قال له صاحبه) أي قال للكافر صاحبه المؤمن حال محاورته له منكرا عليه ما قاله (أكفرت بالذي خلقك من تراب) بقولك (ما أظن الساعة قائمة)،
وقال تعالى أيضا في بيان أن الكفر يكون بالكلمة فقط ولا يشترط فيه عمل القلب من جحود أو غيره (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)، ومن المعلوم أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يظهرون الإسلام ويحكم لهم به في أحكام الدنيا، وقد أثبت الله لهم ذلك بقوله (قد كفرتم بعد إيمانكم)، وأن هؤلاء القوم ما زادوا على كلمة قالوها على وجه التسلية وإشغال الوقت، فقد قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، وما قصدوا الكفر بقلوبهم بدليل أنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : سمر كنا نقطع به الطريق، فأكفرهم الله تعالى بذلك وحكم عليهم بالكفر بعد الإيمان، وهذا بيان واضح لمن كان له قلب يفهم ويعي به أن الكفر كما يكون بالقلب يكون أيضا بالعمل المجرد ويكون أيضا بالكلمة التي تخرج من الفم ولا تعلق لها بالقلب.
وفي بيان السبب في قول من أرجع الكفر وعلقه على عمل القلب قال ابن تيمية رحمه الله: ومن هنا يظهر خطأ قول جهم بن صفوان ومن اتبعه حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، ولم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمنا كامل الإيمان بقلبه، وهو مع هذا يسب الله ورسوله ويعادي الله ورسوله ويعادي أولياء الله ويوالي أعداء الله ويقتل الأنبياء ويهدم المساجد...إلى قوله رحمه الله: قالوا: هذه كلها معاصٍ لا تنافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن، قالوا: وإنما نثبت له في الدنيا أحكام الكفار لأن هذه الأقوال أمـارة على الكفـــر...إلى أن قال رحمـه الله:
فإذا أورد عليهم الكتاب والسنة والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر في نفس الأمر معذب في الآخرة قالوا: فهذا دليل على انتفاء التصديق والعلم من قلبه. اهـ
وقد قال ابن حزم في كلامه على قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم ليعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون): فها نص جلي وخطاب للمؤمنين بان إيمانهم قد يبطل جملة وأعمالهم تحبط برفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم دون جحد منهم أصلا، ولو كان منهم جحد لشعروا به والله تعالى أخبرنا بان ذلك يكون وهم لا يشعرون. اهـ
وقد ذكر علماؤنا الكرام أنواعا من الأعمال المكفرة ولم يشترطوا لها جحود القلب أو استحلاله، وذلك مثل ما نقله ابن كثير رحمه الله من الإجماع على كفر من بدل أحكام الله تعالى حيث قال رحمه الله فيمن ترك حكم الله تعالى وحكم بغيره:
"فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين،"
قال تعالى (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) وقال تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما). اهـ
وقال أيضا رحمه الله في تفسير آية المائدة السابقة: ينكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله...إلى قوله رحمه الله: فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير. اهـ
وقد ذكر العلماء في كتبهم بعض الأقوال والأفعال المكفرة، ونحن نذكر طرفا منها لنبين أن الردة لا تقتصر فقط على اعتقاد القلب أو على الجحود أو الاستحلال، وإنما تكون بكل قول أو فعل حكم الشارع على فاعله أو قائله بالكفر.
وفي بيان أمثلة للردة بالأقوال اخترت من ذلك ما ذكره أبو بكر الحصني الشافعي حيث قال رحمه الله: فكما إذا قال شخص عن عدوه لو كان ربي ما عبدته فإنه يكفر، وكذا لو قال لو كان نبيا ما آمنت به، أو قال عن ولده أو زوجته هو أحب إلي من الله، أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا لو قال مريض بعد أن شُفي لقيت في مرضي هذا ما لو قتلت أبا بكر وعمر لم أستوجبه، فإنه يكفر، ولو قيل له قلم أظافرك، أو قص شاربك فإنه سنة، فقال لا أفعل إن كان سنة كفر قاله الرافعي عن أصحاب أبي حنيفة وتبعهم، ولو تقاول شخصان فقال أحدهما: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال الآخر لا حول ولا قوة إلا بالله لا تغني من جوع كفر، ولو سمع أذان المؤذن فقال إنه يكذب كفر، ولو قال لا أخاف القيامة كفر، ولو ابتلي بمصائب فقال أخذ مالي وولدي وكذا وكذا وماذا يفعله أيضا وما بقي ما يفعل كفر، ولو ضرب غلامه وولده فقال له شخص ألست بمسلم، فقال لا متعمدا كفر. اهـ
أمثلة معاصــــــره
----------------
ومن الأمثلة الصارخة على الردة بالأقوال في زماننا هذا قول بعض العلمانيين ـ ممن يزعمون أنهم من أهل الفكر والمثقفين ـ إن دين الإسلام لا يصلح للتطبيق في هذا الزمان، أو أنه رجعية وتخلف، أو أنه قانون قد عفى عليه الزمان، أو أنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، أو ما شابه ذلك من الأقوال التي انتشرت في زماننا هذا من بعض ممن ينتسب إلى الإسلام زورآ ، ومن ذلك أيضا سب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو دينه أو الاستهزاء بالمسلمين بسبب دينهم أو وصف الحجاب الشرعي بأنه خيمة أو بما يشعر بعدم الرضى بحكم الله تعالى، فكل هذه الأقوال مكفرة لقائلها مخرجة له من ملة الإسلام، فليحذر كل امرئ لنفسه وكل امرئ حسيب نفسه.
وفي الردة بالأفعال قال أبو بكر الحصني أيضا بعد كلامه السابق: وأما الكفـر بالفعل كالسجود للصنم والشمس والقمر، وإلقاء المصحف في القاذورات، والسحر الذي فيه عبادة الشمس، وكذا الذبح للأصنام، والسخرياء باسم من أسماء الله تعالى أو بأمره أو وعيده، أو قراءة القرآن على ضرب الدف، وكذا لو كان يتعاطى الخمر والزنا ويقدم اسم الله تعالى استخفافا فإنه يكفر،
ونقل الرافعي عن أصحاب أبي حنيفة أنه لو شد الزنار على وسطه كفر، قال: واختلفوا فيمن وضع قلنسوة المجوس على رأسه والصحيح أنه يكفر، ولو فعل فعلا أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان مصرحا بالإسلام مع فعله كالسجود للصليب أو المشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم من الزنانير وغيرها فإنه يكفر. اهـ
__________________________