كثير من الناس حينما تتناقش معهم في تكفير كل من أشرك بالله ولو كان من العوام سواء كان هذا الشرك في باب النسك بعبادة غير الله وصرف حق الله الخالص له لغيره من الأنداد والآلهة الباطلة أو كان في باب التشريع والتحاكم والحكم أو في باب الولاية والتولى فيستنكرون الحكم بتكفيرهم ويحتجون بحجة باطلة أبطلها الله في كتابه والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته :
وحجتهم الداحضة هى :
1- أن هؤلاء العوام لا يكفرون لأن أئمة الضلال هم من لبسوا عليهم الحق بالباطل وأوقعوهم في الكفر والشرك بالله وهم يحسبون أنهم محسنون وهم في عملهم هذا متبعون لأئمتهم فالوزر والذنب على الأئمة المضلون لا على الأتباع المساكين الذين ضللوا واتبعوهم .
والجواب على هذه الشبهة يكون من صريح القرآن والسنة .
أما من القرآن :-
----------
1- قال تعالى : ( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ( 166 ) وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ( 167 ) ) سورة البقرة
أ- قال الإمام البغوى رحمه الله في التفسير : (( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب ) هذا في يوم القيامة حين يجمع الله القادة والأتباع فيتبرأ بعضهم من بعض هذا قول أكثر المفسرين وقال السدي : هم الشياطين يتبرءون من الإنس ( وتقطعت بهم ) أي عنهم ( الأسباب ) أي الصلات التي كانت بينهم في الدنيا من القرابات والصداقات وصارت مخالتهم عداوة وقال ابن جريج : الأرحام كما قال الله تعالى : "فلا أنساب بينهم يومئذ " ( 101 - المؤمنون ) وقال السدي : يعني الأعمال التي كانوا [ ص: 180 ] يعملونها في الدنيا كما قال الله تعالى "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " ( 23 - الفرقان .
وأصل السبب ما يوصل به إلى الشيء من ذريعة أو قرابة أو مودة ومنه يقال للحبل سبب وللطريق سبب
( وقال الذين اتبعوا ) يعني الأتباع ( لو أن لنا كرة ) أي رجعة إلى الدنيا ( فنتبرأ منهم ) أي من المتبوعين ( كما تبرءوا منا ) اليوم ( كذلك ) أي كما أراهم العذاب كذلك ( يريهم الله ) وقيل كتبرؤ بعضهم من بعض يريهم الله ( أعمالهم حسرات ) ندامات ( عليهم ) جمع حسرة قيل : يريهم الله ما ارتكبوا من السيئات فيتحسرون لم عملوا وقيل : يريهم ما تركوا من الحسنات فيندمون على تضييعها وقال ابن كيسان : إنهم أشركوا بالله الأوثان رجاء أن تقربهم إلى الله عز وجل فلما عذبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسروا وندموا . قال السدي : ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله فيقال لهم تلك مساكنكم لو أطعتم الله ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يندمون ويتحسرون ( وما هم بخارجين من النار ) . ) أ.هـ.
ب- قال الإمام القرطبي في التفسير : (قوله تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا يعني السادة والرؤساء تبرءوا ممن اتبعهم على الكفر . عن قتادة وعطاء والربيع . وقال قتادة أيضا والسدي : هم الشياطين المضلون تبرءوا من الإنس . وقيل : هو عام في كل متبوع . ورأوا العذاب يعني التابعين والمتبوعين ، قيل : بتيقنهم له عند المعاينة في الدنيا . وقيل : عند العرض والمساءلة في الآخرة .
قلت : كلاهما حاصل ، فهم يعاينون عند الموت ما يصيرون إليه من الهوان ، وفي الآخرة يذوقون أليم العذاب والنكال .
[ ص: 194 ] قوله تعالى : وتقطعت بهم الأسباب أي الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من رحم وغيره ، عن مجاهد وغيره . الواحد سبب ووصلة . وأصل السبب الحبل يشد بالشيء فيجذبه ، ثم جعل كل ما جر شيئا سببا . وقال السدي وابن زيد : إن الأسباب أعمالهم . والسبب الناحية ، ومنه قول زهير :
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه وإن يرق أسباب السماء بسلم) أ.هـ.
ج - قال الشوكانى في فتح القدير : (قوله : إذ تبرأ الذين اتبعوا بدل من قوله : إذ يرون العذاب ومعناه : أن السادة والرؤساء تبرءوا ممن اتبعهم على الكفر .
وقوله : ورأوا العذاب في محل نصب على الحال : يعني التابعين والمتبوعين ، قيل : عند المعاينة في الدنيا ، وقيل : عند العرض والمساءلة في الآخرة .
ويمكن أن يقال فيهما جميعا إذ لا مانع من ذلك .
قوله : وتقطعت بهم الأسباب هي جمع سبب ، وأصله في اللغة : الحبل الذي يشد به الشيء ويجذب به ، ثم جعل كل ما جر شيئا سببا ، والمراد بها : الوصل التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من الرحم وغيره ، وقيل : هي الأعمال .
والكرة : الرجعة والعودة إلى حال قد كانت ، و "لو "هنا في معنى التمني كأنه قيل : ليت لنا كرة ، ولهذا وقعت الفاء في الجواب .
والمعنى : أن الأتباع قالوا : لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم كما تبرءوا منا .
والكاف في قوله : كما تبرءوا منا في محل نصب على النعت لمصدر محذوف ، وقيل : في محل نصب على الحال ، ولا أراه صحيحا .
وقوله : كذلك يريهم الله في موضع رفع : أي الأمر كذلك ، أي كما أراهم الله العذاب يريهم أعمالهم ، وهذه الرؤية إن كانت بصرية فقوله : حسرات منتصب على الحال ، وإن كانت القلبية فهو المفعول الثالث ، والمعنى : أن أعمالهم الفاسدة يريهم الله إياها فتكون عليهم حسرات ، أو يريهم الأعمال الصالحة التي أوجبها عليهم فتركوها فيكون ذلك حسرة عليهم .
وقوله : وما هم بخارجين من النار فيه دليل على خلود الكفار في النار ، وظاهر هذا التركيب يفيد الاختصاص ، وجعله الزمخشري للتقوية لغرض له يرجع إلى المذهب ، والبحث في هذا يطول . ) أ.هـ.
فتأمل هنا كيف أن الله عز وجل نقل لنا في هذه الآيات تبرؤ الأتباع والأكابر من الأمراء والعلماء وذوى الجاه والسلطان من أتباعهم . وأن الله عز وجل أثبت أن العذاب ينال كلا الفريقين التابع والمتبوع في الكفر والشرك والضلال وأنه لا حجة لكلا الفريقين على الآخر ولا عذر لأحدهما دون الآخر بل التابع والمتبوع كلاهما محاسب ومعذب على كفره وشركه ولاهما مخلد في نار جهنم عياذا بالله تعالى . فأين هذا من مجادلة المجادل عن العوام المشركين بأنهم قلدوا شيوخهم واتبعوهم وهذا عذر لهم ؟!!!!!
2- قال تعالى : ( وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ( 25 ) ) سورة فصلت .
أ- قال الإمام ابن كثير في تفسيره : (يذكر تعالى أنه هو الذي أضل المشركين ، وأن ذلك بمشيئته وكونه وقدرته ، وهو الحكيم في أفعاله ، بما قيض لهم من القرناء من شياطين الإنس والجن : ( فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم ) أي : حسنوا لهم أعمالهم في الماضي ، وبالنسبة إلى المستقبل فلم يروا أنفسهم إلا محسنين ، كما قال تعالى : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون ) [ الزخرف : 36 ، 37 ] .
وقوله تعالى : ( وحق عليهم القول ) أي : كلمة العذاب كما حق على أمم قد خلت من قبلهم ، ممن فعل كفعلهم ، من الجن والإنس ، ( إنهم كانوا خاسرين ) أي : استووا هم وإياهم في الخسار والدمار . ) أ.هـ.
ب- قال الإمام القرطبي في تفسيره : (قوله تعالى : وقيضنا لهم قرناء قال النقاش : أي : هيأنا لهم شياطين . وقيل : سلطنا عليهم قرناء يزينون عندهم المعاصي ، وهؤلاء القرناء من الجن والشياطين ومن الإنس أيضا ، أي : سببنا لهم قرناء ، يقال : قيض الله فلانا لفلان أي : جاءه به وأتاحه له ، ومنه قوله تعالى : وقيضنا لهم قرناء . القشيري : ويقال : قيض الله لي رزقا أي : أتاحه كما كنت أطلبه ، والتقييض الإبدال ، ومنه المقايضة ، قايضت الرجل مقايضة أي : عاوضته بمتاع ، وهما قيضان كما تقول : بيعان .
فزينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا فحسنوه لهم حتى آثروه على الآخرة "وما خلفهم "حسنوا لهم ما بعد مماتهم ودعوهم إلى التكذيب بأمور الآخرة ، عن مجاهد . وقيل : المعنى قيضنا لهم قرناء في النار فزينوا لهم أعمالهم في الدنيا ، والمعنى : قدرنا عليهم أن ذلك سيكون وحكمنا به عليهم . وقيل : المعنى : أحوجناهم إلى الأقران ، أي : أحوجنا الفقير إلى الغني لينال منه ، والغني إلى الفقير ليستعين به ، فزين بعضهم لبعض المعاصي . وليس قوله : "وما خلفهم "عطفا على "ما بين أيديهم "بل المعنى : وأنسوهم ما خلفهم ، ففيه هذا الإضمار . قال ابن عباس : ما بين أيديهم تكذيبهم بأمور الآخرة وما خلفهم التسويف [ ص: 317 ] والترغيب في الدنيا . الزجاج : ما بين أيديهم ما عملوه وما خلفهم ما عزموا على أن يعملوه . وقد تقدم قول مجاهد . وقيل : المعنى لهم مثل ما تقدم من المعاصي وما خلفهم ما يعمل بعدهم .
وحق عليهم القول في أمم أي وجب عليهم من العذاب ما وجب على الأمم الذين من قبلهم الذين كفروا ككفرهم . وقيل : في بمعنى مع ، فالمعنى هم داخلون مع الأمم الكافرة قبلهم فيما دخلوا فيه . وقيل : في أمم في جملة أمم ، ومثله قول الشاعر [ عمرو بن أبنة ] :
إن تك عن أحسن الصنيعة مأ فوكا ففي آخرين قد أفكوا
يريد : فأنت في جملة آخرين لست في ذلك بأوحد . ومحل في أمم النصب على الحال من الضمير في عليهم أي : حق عليهم القول كائنين في جملة أمم . إنهم كانوا خاسرين أعمالهم في الدنيا وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة . ) أ.هـ.
ج- قال أثير الدين الأندلسي في البحر المحيط : (فقال : ( وقيضنا لهم قرناء ) أي : سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا .
وقيل : سلطنا ووكلنا عليهم . وقيل : قدرنا لهم . وقرناء : جمع قرين ، أي : قرناء سوء من غواة الجن والإنس ; ( فزينوا لهم ) أي : حسنوا وقدروا في أنفسهم ; ( ما بين أيديهم ) ، قال ابن عباس : من أمر الآخرة ، أنه لا جنة ولا نار ولا بعث .
( وما خلفهم ) ، قال ابن عباس : من أمر الدنيا ، من الضلالة والكفر ولذات الدنيا . وقال الكلبي : ( ما بين أيديهم ) : أعمالهم التي يشاهدونها ، ( وما خلفهم ) : ما هم عاملوه في المستقبل .
وقال ابن عطية : ( ما بين أيديهم ) ، من معتقدات السوء في الرسل والنبوات ومدح عبادة الأصنام ، واتباع فعل الآباء ، ( وما خلفهم ) : ما يأتي بعدهم من أمر القيامة والمعاد . انتهى ، ملخصا ، وهو شرح قول الحسن ، قال : ( ما بين أيديهم ) من أمر الدنيا ، ( وما خلفهم ) من أمر الآخرة .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين ، وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم ؟ ( قلت ) : معناه أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر ، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين ، والدليل عليه : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا ) . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .
( وحق عليهم القول ) أي : كلمة العذاب ، وهو القضاء المحتم ، بأنهم معذبون .
( في أمم ) أي : في جملة أمم ، وعلى هذا قول الشاعر :
إن تك عن أحسن الصنيعة مأفو كا ففي آخرين قد أفكوا
أي : فأنت في جملة آخرين ، أو فأنت في عدد آخرين ، لست في ذلك بأوحد .
وقيل : في بمعنى مع ، ولا حاجة للتضمين مع صحة معنى في . وموضع ( في أمم ) نصب على الحال ، أي : كائنين في جملة أمم ، وذو الحال الضمير في ( عليهم ) .
( إنهم كانوا خاسرين ) : الضمير لهم وللأمم ، وهذا تعليل لاستحقاقهم العذاب .) أ.هـ.
د- قال الطاهر بن عاشور في تفسيره : (وقيض : أتاح وهيأ شيئا للعمل في شيء . والقرناء جمع : قرين ، وهو الصاحب الملازم ، والقرناء هنا : هم الملازمون لهم في الضلالة : إما في الظاهر مثل دعاة الكفر وأيمته ، وإما في باطن النفوس مثل شياطين الوسواس الذين قال الله فيهم ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ويأتي في سورة الزخرف .
ومعنى تقييضهم لهم : تقديرهم لهم ، أي خلق المناسبات التي يتسبب عليها [ ص: 275 ] تقارن بعضهم مع بعض لتناسب أفكار الدعاة والقابلين كما يقول الحكماء استفادة القابل من المبدأ تتوقف على المناسبة بينهما . فالتقييض بمعنى التقدير عبارة جامعة لمختلف المؤثرات والتجمعات التي توجب التآلف والتحاب بين الجماعات ، ولمختلف الطبائع المكونة في نفوس بعض الناس فيقتضي بعضها جاذبية الشياطين إليها وحدوث الخواطر السيئة فيها . وللإحاطة بهذا المقصود أوثر التعبير هنا بـ قيضنا دون غيره من نحوه : بعثنا ، وأرسلنا .
والتزيين : التحسين ، وهو يشعر بأن المزين غير حسن في ذاته . وما بين أيديهم يستعار للأمور المشاهدة ، وما خلفهم يستعار للأمور المغيبة .
والمراد بـ ( ما بين أيديهم ) أمور الدنيا ، أي زينوا لهم ما يعملونه في الدنيا من الفساد مثل عبادة الأصنام ، وقتل النفس بلا حق ، وأكل الأموال ، والعدول على الناس باليد واللسان ، والميسر ، وارتكاب الفواحش ، والوأد . فعودوهم باستحسان ذلك كله لما فيه من موافقة الشهوات والرغبات العارضة القصيرة المدى ، وصرفوهم عن النظر فيما يحيط بأفعالهم تلك من المفاسد الذاتية الدائمة .
والمراد بـ ( ما خلفهم ) الأمور المغيبة عن الحس من صفات الله ، وأمور الآخرة من البعث والجزاء مثل الشرك بالله ونسبة الولد إليه ، وظنهم أنه يخفى عليه مستور أعمالهم ، وإحالتهم بعثة الرسل ، وإحالتهم البعث والجزاء .
ومعنى تزيينهم هذا لهم تلقينهم تلك العقائد بالأدلة السفسطائية مثل قياس الغائب على الشاهد ، ونفي الحقائق التي لا تدخل تحت المدركات الحسية كقولهم " ( أاذا كنا ترابا وعظاما إنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون ) " .
وحق عليهم أي تحقق فيهم القول وهو وعيد الله إياهم بالنار على الكفر ، فالتعريف في القول للعهد . وفي هذا العهد إجمال ؛ لأنه وإن كان قد ورد في القرآن ما يعهد منه هذا القول مثل قوله أفمن حق عليه كلمة العذاب وقوله فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون ، فإنه يمكن أن لا تكون الآيات المذكورة قد سبقت هذه الآية .
[ ص: 276 ] وقوله في أمم حال من ضمير عليهم ، أي حق عليهم حالة كونهم في أمم أمثالهم قد سبقوهم .
والظرفية هنا مجازية ، وهي بمعنى التبعيض ، أي هم من أمم قد خلت من قبلهم حق عليهم القول . ومثل هذا الاستعمال قول عمرو بن أذينة :
إن تك عن أحسن الصنيعة مأفو كا ففي آخرين قد أفكوا
أي فأنت من جملة آخرين قد صرفوا عن أحسن الصنيعة .
ومن في قوله ( من الجن والإنس ) بيانية ، فيجوز أن يكون بيانا لـ أمم ، أي من أمم من البشر ومن الشياطين فيكون مثل قوله تعالى قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ، وقوله قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ويجوز أن يكون بيانا لـ ( قرناء ) أي ملازمين لهم ملازمة خفية وهي ملازمة الشياطين لهم بالوسوسة وملازمة أيمة الكفر لهم بالتشريع لهم ما لم يأذن به الله .
وجملة إنهم كانوا خاسرين يجوز أن تكون بيانا للقول مثل نظيرتها فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون في سورة الصافات ، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة وحق عليهم القول في أمم والمعنيان متقاربان . ) أ.هـ.
ولو تأملت معى هذه الآية وما قاله أهل العلم في تفسيرها لوجدت الآتي :
1- أن الله تعالى قد بين أن ايجاد الأئمة المضلون وتزيينهم الباطل للناس لحرفهم عن التوحيد ومنهج الله تعالى هو عقوبة ربانية وليس عذرا يمنع من تكفير من اتبعهم على ضلالهم .
2- أن تزيين علماء الضلال للباطل من شرك ومعاص وتسميته بغير اسمه وتأول بعض الأدلة الشرعية لإضفاء الشرعية عليه لا يحيله حقا واسلاما وأمرا محمودا فالمعيار الحقيقي في وصف شئ ما بأنه حق أوباطل هو حقيقة هذا الشئ في دين الله تعالى بغض النظر عن تصور الناس ومبلغ علمهم في هذا الشئ وبصرف النظر عن كون هذه التصورات الخاطئة قد نتجت عن جهل بحقيقة التوحيد أو بسبب اضلال علماء الضلالة لأتباعهم أو بسبب عدم بلوغ الحجة فالشرك شرك في كل الأحوال وتحت كل المسميات ورغم كل التلبيسات والجهالات المنتشرة في الناس وحكمه وحكم من تلبس به ثابت لكل من فعله بصرف النظر عن الدوافع والأسباب الحاملة على فعله .
3- أن أتباع علماء الضلالة ومريديهم وتلاميذهم الذين زُين لهم الشرك والكفر من شيوخهم قد حق عليهم العذاب كما حق على الذين من قبلهم وأن اتباعهم لعلمائهم فيما يناقض دين الاسلام لم يغن عنهم من الله شيئا ولم يصلح حجة لهم في رفع العذاب في الآخرة ولا في ثبوت الاسلام لهم في الدنيا مع فعلهم للشرك .
أما من السنة :-
---------------
1- فقد روى البخاري في "صحيحه"بسنده إلى حُذَيفَة بن اليمان - رضِي الله عنه - أنَّه قال: كان الناس يسألون رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يُدرِكني، فقلت: يا رسول الله، إنَّا كنَّا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم))، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دَخَنٌ))، قلت: وما دَخَنُه؟ قال: ((قومٌ يَهدُون بغير هَديِي، تعرِف منهم وتُنكِر))، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم؛ دُعَاة على أبواب جهنَّم، مَن أجابَهُم إليها قذَفُوه فيها))، قلت: يا رسول الله، صِفْهُم لنا؟ قال: ((هم من جِلدَتِنا، ويتكلَّمون بألسنتنا))، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم))، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتَزِل تلك الفِرَق كلها، ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة حتى يُدرِكَك الموت، وأنت على ذلك)).
والشاهد من الحديث العظيم هو قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((نعم؛ دُعَاة على أبواب جهنَّم، مَن أجابَهُم إليها قذَفُوه فيها))، قلت: يا رسول الله، صِفْهُم لنا؟ قال: ((هم من جِلدَتِنا، ويتكلَّمون بألسنتنا))
فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يخبرنا بما سيؤول إليه حال الأمة حيث سيفسد أمر العلماء والدعاة ويظهر منهم طائفة -ليست بالقليلة - تكون دعاة ومنابرا على أبواب جهنم يدعون لتسويغ الشرك ومخالفة التوحيد واستحلال المحرمات والتحايل على الواجبات المتحتمات برخص ما أنزل الله بها من سلطان ولم يشرعها الواحد الديان ويقرر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أجابهم وفعل ما يدعون إليه من مخالفة لدين الله سواء كانت هذه المخالفة في باب التوحيد أو في باب المعاصى وترك الواجبات فإنه سيقذف في النار وسيحاسب على مخالفته التي اقترفها بحسب مرتبة هذه المخالفة التى فعلها وبحسب ميزان الشرع لا موازين ظنون البشر ومبالغ علمهم هم ولم يقل النبي أن من أجابهم فهو معذور لأنه اتبع العلماء والدعاة ولأن المستجيب لهم كانت نيته حسنة وكان يظن أنه متبع للشرع لا والله لم يقل ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم مطلقا .
فدل ذلك على ان اتباع أئمة الضلالة (الذين هم في صورتهم كصورة صالحى المسلمين ويتكلمون بالعربية وبالكتاب والسنة ) فيما يخالف دين الله تعالى ويناقض أصل الدين سبب للهلاك والمصير إلى النار وليس مانعا ولا عذرا كما يدعى المرجفون الذين يجادلون عن أهل الشرك و الخسران .
2- في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم { من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا }
فتأمل معى كيف أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الإثم لداعية الضلال كما أثبته لمن استجاب له في ضلاله ولم يعذر النبي صلى الله عليه وسلم متبعي دعاة الضلالة بحجة أنهم قد غرر بهم وضللوا ولبس عليهم الحق بالباطل وجهلوا وتأولوا بل كلا الفريقين دعاة ومدعوون عليهم الوزر كاملا ومستحقين لحكم ما فعلوا من ضلالة في الدنيا والآخرة .
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما جهلنا وأن يفقهنا في ديننا وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه وأن يتوفنا على الإسلام غير مبدلين اللهم آميين .
الفقير إلى عفو ربه
سلمان سالم
وحجتهم الداحضة هى :
1- أن هؤلاء العوام لا يكفرون لأن أئمة الضلال هم من لبسوا عليهم الحق بالباطل وأوقعوهم في الكفر والشرك بالله وهم يحسبون أنهم محسنون وهم في عملهم هذا متبعون لأئمتهم فالوزر والذنب على الأئمة المضلون لا على الأتباع المساكين الذين ضللوا واتبعوهم .
والجواب على هذه الشبهة يكون من صريح القرآن والسنة .
أما من القرآن :-
----------
1- قال تعالى : ( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ( 166 ) وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ( 167 ) ) سورة البقرة
أ- قال الإمام البغوى رحمه الله في التفسير : (( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب ) هذا في يوم القيامة حين يجمع الله القادة والأتباع فيتبرأ بعضهم من بعض هذا قول أكثر المفسرين وقال السدي : هم الشياطين يتبرءون من الإنس ( وتقطعت بهم ) أي عنهم ( الأسباب ) أي الصلات التي كانت بينهم في الدنيا من القرابات والصداقات وصارت مخالتهم عداوة وقال ابن جريج : الأرحام كما قال الله تعالى : "فلا أنساب بينهم يومئذ " ( 101 - المؤمنون ) وقال السدي : يعني الأعمال التي كانوا [ ص: 180 ] يعملونها في الدنيا كما قال الله تعالى "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " ( 23 - الفرقان .
وأصل السبب ما يوصل به إلى الشيء من ذريعة أو قرابة أو مودة ومنه يقال للحبل سبب وللطريق سبب
( وقال الذين اتبعوا ) يعني الأتباع ( لو أن لنا كرة ) أي رجعة إلى الدنيا ( فنتبرأ منهم ) أي من المتبوعين ( كما تبرءوا منا ) اليوم ( كذلك ) أي كما أراهم العذاب كذلك ( يريهم الله ) وقيل كتبرؤ بعضهم من بعض يريهم الله ( أعمالهم حسرات ) ندامات ( عليهم ) جمع حسرة قيل : يريهم الله ما ارتكبوا من السيئات فيتحسرون لم عملوا وقيل : يريهم ما تركوا من الحسنات فيندمون على تضييعها وقال ابن كيسان : إنهم أشركوا بالله الأوثان رجاء أن تقربهم إلى الله عز وجل فلما عذبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسروا وندموا . قال السدي : ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها لو أطاعوا الله فيقال لهم تلك مساكنكم لو أطعتم الله ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يندمون ويتحسرون ( وما هم بخارجين من النار ) . ) أ.هـ.
ب- قال الإمام القرطبي في التفسير : (قوله تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا يعني السادة والرؤساء تبرءوا ممن اتبعهم على الكفر . عن قتادة وعطاء والربيع . وقال قتادة أيضا والسدي : هم الشياطين المضلون تبرءوا من الإنس . وقيل : هو عام في كل متبوع . ورأوا العذاب يعني التابعين والمتبوعين ، قيل : بتيقنهم له عند المعاينة في الدنيا . وقيل : عند العرض والمساءلة في الآخرة .
قلت : كلاهما حاصل ، فهم يعاينون عند الموت ما يصيرون إليه من الهوان ، وفي الآخرة يذوقون أليم العذاب والنكال .
[ ص: 194 ] قوله تعالى : وتقطعت بهم الأسباب أي الوصلات التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من رحم وغيره ، عن مجاهد وغيره . الواحد سبب ووصلة . وأصل السبب الحبل يشد بالشيء فيجذبه ، ثم جعل كل ما جر شيئا سببا . وقال السدي وابن زيد : إن الأسباب أعمالهم . والسبب الناحية ، ومنه قول زهير :
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه وإن يرق أسباب السماء بسلم) أ.هـ.
ج - قال الشوكانى في فتح القدير : (قوله : إذ تبرأ الذين اتبعوا بدل من قوله : إذ يرون العذاب ومعناه : أن السادة والرؤساء تبرءوا ممن اتبعهم على الكفر .
وقوله : ورأوا العذاب في محل نصب على الحال : يعني التابعين والمتبوعين ، قيل : عند المعاينة في الدنيا ، وقيل : عند العرض والمساءلة في الآخرة .
ويمكن أن يقال فيهما جميعا إذ لا مانع من ذلك .
قوله : وتقطعت بهم الأسباب هي جمع سبب ، وأصله في اللغة : الحبل الذي يشد به الشيء ويجذب به ، ثم جعل كل ما جر شيئا سببا ، والمراد بها : الوصل التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا من الرحم وغيره ، وقيل : هي الأعمال .
والكرة : الرجعة والعودة إلى حال قد كانت ، و "لو "هنا في معنى التمني كأنه قيل : ليت لنا كرة ، ولهذا وقعت الفاء في الجواب .
والمعنى : أن الأتباع قالوا : لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم كما تبرءوا منا .
والكاف في قوله : كما تبرءوا منا في محل نصب على النعت لمصدر محذوف ، وقيل : في محل نصب على الحال ، ولا أراه صحيحا .
وقوله : كذلك يريهم الله في موضع رفع : أي الأمر كذلك ، أي كما أراهم الله العذاب يريهم أعمالهم ، وهذه الرؤية إن كانت بصرية فقوله : حسرات منتصب على الحال ، وإن كانت القلبية فهو المفعول الثالث ، والمعنى : أن أعمالهم الفاسدة يريهم الله إياها فتكون عليهم حسرات ، أو يريهم الأعمال الصالحة التي أوجبها عليهم فتركوها فيكون ذلك حسرة عليهم .
وقوله : وما هم بخارجين من النار فيه دليل على خلود الكفار في النار ، وظاهر هذا التركيب يفيد الاختصاص ، وجعله الزمخشري للتقوية لغرض له يرجع إلى المذهب ، والبحث في هذا يطول . ) أ.هـ.
فتأمل هنا كيف أن الله عز وجل نقل لنا في هذه الآيات تبرؤ الأتباع والأكابر من الأمراء والعلماء وذوى الجاه والسلطان من أتباعهم . وأن الله عز وجل أثبت أن العذاب ينال كلا الفريقين التابع والمتبوع في الكفر والشرك والضلال وأنه لا حجة لكلا الفريقين على الآخر ولا عذر لأحدهما دون الآخر بل التابع والمتبوع كلاهما محاسب ومعذب على كفره وشركه ولاهما مخلد في نار جهنم عياذا بالله تعالى . فأين هذا من مجادلة المجادل عن العوام المشركين بأنهم قلدوا شيوخهم واتبعوهم وهذا عذر لهم ؟!!!!!
2- قال تعالى : ( وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ( 25 ) ) سورة فصلت .
أ- قال الإمام ابن كثير في تفسيره : (يذكر تعالى أنه هو الذي أضل المشركين ، وأن ذلك بمشيئته وكونه وقدرته ، وهو الحكيم في أفعاله ، بما قيض لهم من القرناء من شياطين الإنس والجن : ( فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم ) أي : حسنوا لهم أعمالهم في الماضي ، وبالنسبة إلى المستقبل فلم يروا أنفسهم إلا محسنين ، كما قال تعالى : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون ) [ الزخرف : 36 ، 37 ] .
وقوله تعالى : ( وحق عليهم القول ) أي : كلمة العذاب كما حق على أمم قد خلت من قبلهم ، ممن فعل كفعلهم ، من الجن والإنس ، ( إنهم كانوا خاسرين ) أي : استووا هم وإياهم في الخسار والدمار . ) أ.هـ.
ب- قال الإمام القرطبي في تفسيره : (قوله تعالى : وقيضنا لهم قرناء قال النقاش : أي : هيأنا لهم شياطين . وقيل : سلطنا عليهم قرناء يزينون عندهم المعاصي ، وهؤلاء القرناء من الجن والشياطين ومن الإنس أيضا ، أي : سببنا لهم قرناء ، يقال : قيض الله فلانا لفلان أي : جاءه به وأتاحه له ، ومنه قوله تعالى : وقيضنا لهم قرناء . القشيري : ويقال : قيض الله لي رزقا أي : أتاحه كما كنت أطلبه ، والتقييض الإبدال ، ومنه المقايضة ، قايضت الرجل مقايضة أي : عاوضته بمتاع ، وهما قيضان كما تقول : بيعان .
فزينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا فحسنوه لهم حتى آثروه على الآخرة "وما خلفهم "حسنوا لهم ما بعد مماتهم ودعوهم إلى التكذيب بأمور الآخرة ، عن مجاهد . وقيل : المعنى قيضنا لهم قرناء في النار فزينوا لهم أعمالهم في الدنيا ، والمعنى : قدرنا عليهم أن ذلك سيكون وحكمنا به عليهم . وقيل : المعنى : أحوجناهم إلى الأقران ، أي : أحوجنا الفقير إلى الغني لينال منه ، والغني إلى الفقير ليستعين به ، فزين بعضهم لبعض المعاصي . وليس قوله : "وما خلفهم "عطفا على "ما بين أيديهم "بل المعنى : وأنسوهم ما خلفهم ، ففيه هذا الإضمار . قال ابن عباس : ما بين أيديهم تكذيبهم بأمور الآخرة وما خلفهم التسويف [ ص: 317 ] والترغيب في الدنيا . الزجاج : ما بين أيديهم ما عملوه وما خلفهم ما عزموا على أن يعملوه . وقد تقدم قول مجاهد . وقيل : المعنى لهم مثل ما تقدم من المعاصي وما خلفهم ما يعمل بعدهم .
وحق عليهم القول في أمم أي وجب عليهم من العذاب ما وجب على الأمم الذين من قبلهم الذين كفروا ككفرهم . وقيل : في بمعنى مع ، فالمعنى هم داخلون مع الأمم الكافرة قبلهم فيما دخلوا فيه . وقيل : في أمم في جملة أمم ، ومثله قول الشاعر [ عمرو بن أبنة ] :
إن تك عن أحسن الصنيعة مأ فوكا ففي آخرين قد أفكوا
يريد : فأنت في جملة آخرين لست في ذلك بأوحد . ومحل في أمم النصب على الحال من الضمير في عليهم أي : حق عليهم القول كائنين في جملة أمم . إنهم كانوا خاسرين أعمالهم في الدنيا وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة . ) أ.هـ.
ج- قال أثير الدين الأندلسي في البحر المحيط : (فقال : ( وقيضنا لهم قرناء ) أي : سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا .
وقيل : سلطنا ووكلنا عليهم . وقيل : قدرنا لهم . وقرناء : جمع قرين ، أي : قرناء سوء من غواة الجن والإنس ; ( فزينوا لهم ) أي : حسنوا وقدروا في أنفسهم ; ( ما بين أيديهم ) ، قال ابن عباس : من أمر الآخرة ، أنه لا جنة ولا نار ولا بعث .
( وما خلفهم ) ، قال ابن عباس : من أمر الدنيا ، من الضلالة والكفر ولذات الدنيا . وقال الكلبي : ( ما بين أيديهم ) : أعمالهم التي يشاهدونها ، ( وما خلفهم ) : ما هم عاملوه في المستقبل .
وقال ابن عطية : ( ما بين أيديهم ) ، من معتقدات السوء في الرسل والنبوات ومدح عبادة الأصنام ، واتباع فعل الآباء ، ( وما خلفهم ) : ما يأتي بعدهم من أمر القيامة والمعاد . انتهى ، ملخصا ، وهو شرح قول الحسن ، قال : ( ما بين أيديهم ) من أمر الدنيا ، ( وما خلفهم ) من أمر الآخرة .
وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين ، وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم ؟ ( قلت ) : معناه أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر ، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين ، والدليل عليه : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا ) . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .
( وحق عليهم القول ) أي : كلمة العذاب ، وهو القضاء المحتم ، بأنهم معذبون .
( في أمم ) أي : في جملة أمم ، وعلى هذا قول الشاعر :
إن تك عن أحسن الصنيعة مأفو كا ففي آخرين قد أفكوا
أي : فأنت في جملة آخرين ، أو فأنت في عدد آخرين ، لست في ذلك بأوحد .
وقيل : في بمعنى مع ، ولا حاجة للتضمين مع صحة معنى في . وموضع ( في أمم ) نصب على الحال ، أي : كائنين في جملة أمم ، وذو الحال الضمير في ( عليهم ) .
( إنهم كانوا خاسرين ) : الضمير لهم وللأمم ، وهذا تعليل لاستحقاقهم العذاب .) أ.هـ.
د- قال الطاهر بن عاشور في تفسيره : (وقيض : أتاح وهيأ شيئا للعمل في شيء . والقرناء جمع : قرين ، وهو الصاحب الملازم ، والقرناء هنا : هم الملازمون لهم في الضلالة : إما في الظاهر مثل دعاة الكفر وأيمته ، وإما في باطن النفوس مثل شياطين الوسواس الذين قال الله فيهم ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ويأتي في سورة الزخرف .
ومعنى تقييضهم لهم : تقديرهم لهم ، أي خلق المناسبات التي يتسبب عليها [ ص: 275 ] تقارن بعضهم مع بعض لتناسب أفكار الدعاة والقابلين كما يقول الحكماء استفادة القابل من المبدأ تتوقف على المناسبة بينهما . فالتقييض بمعنى التقدير عبارة جامعة لمختلف المؤثرات والتجمعات التي توجب التآلف والتحاب بين الجماعات ، ولمختلف الطبائع المكونة في نفوس بعض الناس فيقتضي بعضها جاذبية الشياطين إليها وحدوث الخواطر السيئة فيها . وللإحاطة بهذا المقصود أوثر التعبير هنا بـ قيضنا دون غيره من نحوه : بعثنا ، وأرسلنا .
والتزيين : التحسين ، وهو يشعر بأن المزين غير حسن في ذاته . وما بين أيديهم يستعار للأمور المشاهدة ، وما خلفهم يستعار للأمور المغيبة .
والمراد بـ ( ما بين أيديهم ) أمور الدنيا ، أي زينوا لهم ما يعملونه في الدنيا من الفساد مثل عبادة الأصنام ، وقتل النفس بلا حق ، وأكل الأموال ، والعدول على الناس باليد واللسان ، والميسر ، وارتكاب الفواحش ، والوأد . فعودوهم باستحسان ذلك كله لما فيه من موافقة الشهوات والرغبات العارضة القصيرة المدى ، وصرفوهم عن النظر فيما يحيط بأفعالهم تلك من المفاسد الذاتية الدائمة .
والمراد بـ ( ما خلفهم ) الأمور المغيبة عن الحس من صفات الله ، وأمور الآخرة من البعث والجزاء مثل الشرك بالله ونسبة الولد إليه ، وظنهم أنه يخفى عليه مستور أعمالهم ، وإحالتهم بعثة الرسل ، وإحالتهم البعث والجزاء .
ومعنى تزيينهم هذا لهم تلقينهم تلك العقائد بالأدلة السفسطائية مثل قياس الغائب على الشاهد ، ونفي الحقائق التي لا تدخل تحت المدركات الحسية كقولهم " ( أاذا كنا ترابا وعظاما إنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون ) " .
وحق عليهم أي تحقق فيهم القول وهو وعيد الله إياهم بالنار على الكفر ، فالتعريف في القول للعهد . وفي هذا العهد إجمال ؛ لأنه وإن كان قد ورد في القرآن ما يعهد منه هذا القول مثل قوله أفمن حق عليه كلمة العذاب وقوله فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون ، فإنه يمكن أن لا تكون الآيات المذكورة قد سبقت هذه الآية .
[ ص: 276 ] وقوله في أمم حال من ضمير عليهم ، أي حق عليهم حالة كونهم في أمم أمثالهم قد سبقوهم .
والظرفية هنا مجازية ، وهي بمعنى التبعيض ، أي هم من أمم قد خلت من قبلهم حق عليهم القول . ومثل هذا الاستعمال قول عمرو بن أذينة :
إن تك عن أحسن الصنيعة مأفو كا ففي آخرين قد أفكوا
أي فأنت من جملة آخرين قد صرفوا عن أحسن الصنيعة .
ومن في قوله ( من الجن والإنس ) بيانية ، فيجوز أن يكون بيانا لـ أمم ، أي من أمم من البشر ومن الشياطين فيكون مثل قوله تعالى قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ، وقوله قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ويجوز أن يكون بيانا لـ ( قرناء ) أي ملازمين لهم ملازمة خفية وهي ملازمة الشياطين لهم بالوسوسة وملازمة أيمة الكفر لهم بالتشريع لهم ما لم يأذن به الله .
وجملة إنهم كانوا خاسرين يجوز أن تكون بيانا للقول مثل نظيرتها فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون في سورة الصافات ، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة وحق عليهم القول في أمم والمعنيان متقاربان . ) أ.هـ.
ولو تأملت معى هذه الآية وما قاله أهل العلم في تفسيرها لوجدت الآتي :
1- أن الله تعالى قد بين أن ايجاد الأئمة المضلون وتزيينهم الباطل للناس لحرفهم عن التوحيد ومنهج الله تعالى هو عقوبة ربانية وليس عذرا يمنع من تكفير من اتبعهم على ضلالهم .
2- أن تزيين علماء الضلال للباطل من شرك ومعاص وتسميته بغير اسمه وتأول بعض الأدلة الشرعية لإضفاء الشرعية عليه لا يحيله حقا واسلاما وأمرا محمودا فالمعيار الحقيقي في وصف شئ ما بأنه حق أوباطل هو حقيقة هذا الشئ في دين الله تعالى بغض النظر عن تصور الناس ومبلغ علمهم في هذا الشئ وبصرف النظر عن كون هذه التصورات الخاطئة قد نتجت عن جهل بحقيقة التوحيد أو بسبب اضلال علماء الضلالة لأتباعهم أو بسبب عدم بلوغ الحجة فالشرك شرك في كل الأحوال وتحت كل المسميات ورغم كل التلبيسات والجهالات المنتشرة في الناس وحكمه وحكم من تلبس به ثابت لكل من فعله بصرف النظر عن الدوافع والأسباب الحاملة على فعله .
3- أن أتباع علماء الضلالة ومريديهم وتلاميذهم الذين زُين لهم الشرك والكفر من شيوخهم قد حق عليهم العذاب كما حق على الذين من قبلهم وأن اتباعهم لعلمائهم فيما يناقض دين الاسلام لم يغن عنهم من الله شيئا ولم يصلح حجة لهم في رفع العذاب في الآخرة ولا في ثبوت الاسلام لهم في الدنيا مع فعلهم للشرك .
أما من السنة :-
---------------
1- فقد روى البخاري في "صحيحه"بسنده إلى حُذَيفَة بن اليمان - رضِي الله عنه - أنَّه قال: كان الناس يسألون رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يُدرِكني، فقلت: يا رسول الله، إنَّا كنَّا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم))، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دَخَنٌ))، قلت: وما دَخَنُه؟ قال: ((قومٌ يَهدُون بغير هَديِي، تعرِف منهم وتُنكِر))، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم؛ دُعَاة على أبواب جهنَّم، مَن أجابَهُم إليها قذَفُوه فيها))، قلت: يا رسول الله، صِفْهُم لنا؟ قال: ((هم من جِلدَتِنا، ويتكلَّمون بألسنتنا))، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم))، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتَزِل تلك الفِرَق كلها، ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة حتى يُدرِكَك الموت، وأنت على ذلك)).
والشاهد من الحديث العظيم هو قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((نعم؛ دُعَاة على أبواب جهنَّم، مَن أجابَهُم إليها قذَفُوه فيها))، قلت: يا رسول الله، صِفْهُم لنا؟ قال: ((هم من جِلدَتِنا، ويتكلَّمون بألسنتنا))
فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يخبرنا بما سيؤول إليه حال الأمة حيث سيفسد أمر العلماء والدعاة ويظهر منهم طائفة -ليست بالقليلة - تكون دعاة ومنابرا على أبواب جهنم يدعون لتسويغ الشرك ومخالفة التوحيد واستحلال المحرمات والتحايل على الواجبات المتحتمات برخص ما أنزل الله بها من سلطان ولم يشرعها الواحد الديان ويقرر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أجابهم وفعل ما يدعون إليه من مخالفة لدين الله سواء كانت هذه المخالفة في باب التوحيد أو في باب المعاصى وترك الواجبات فإنه سيقذف في النار وسيحاسب على مخالفته التي اقترفها بحسب مرتبة هذه المخالفة التى فعلها وبحسب ميزان الشرع لا موازين ظنون البشر ومبالغ علمهم هم ولم يقل النبي أن من أجابهم فهو معذور لأنه اتبع العلماء والدعاة ولأن المستجيب لهم كانت نيته حسنة وكان يظن أنه متبع للشرع لا والله لم يقل ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم مطلقا .
فدل ذلك على ان اتباع أئمة الضلالة (الذين هم في صورتهم كصورة صالحى المسلمين ويتكلمون بالعربية وبالكتاب والسنة ) فيما يخالف دين الله تعالى ويناقض أصل الدين سبب للهلاك والمصير إلى النار وليس مانعا ولا عذرا كما يدعى المرجفون الذين يجادلون عن أهل الشرك و الخسران .
2- في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم { من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا }
فتأمل معى كيف أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الإثم لداعية الضلال كما أثبته لمن استجاب له في ضلاله ولم يعذر النبي صلى الله عليه وسلم متبعي دعاة الضلالة بحجة أنهم قد غرر بهم وضللوا ولبس عليهم الحق بالباطل وجهلوا وتأولوا بل كلا الفريقين دعاة ومدعوون عليهم الوزر كاملا ومستحقين لحكم ما فعلوا من ضلالة في الدنيا والآخرة .
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما جهلنا وأن يفقهنا في ديننا وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه وأن يتوفنا على الإسلام غير مبدلين اللهم آميين .
الفقير إلى عفو ربه
سلمان سالم