بواسطة د.ماجد كارم
مفاصلة المشركين هي البراءة منهم، والبراءة منهم لم تكن إلا لكفرهم بالله الواحد القهار،
والبراءة منهم لم يكن لها من هيئة شرعية إلا هيئة تكفيرهم، ومعاداتهم وبغضهم لذلك حتى يؤمنوا بالله وحده.
فهذه هي الغاية التي أوجبها الله تعالى والزمها أهل الإيمان في مواجهة أهل الكفر والشرك، فإذا تحققت هذه الغايةوتم الإيمان بالله وحده تنتهي هذه المفاصلة والبراءة، لتبدأ عندها معاني الولاء بينهم وبين أهل الإيمان مع اجتماعهم على هذا الدين الواحد، ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين.
لقد كانت هذه المفاصلة بين أهل الإيمان وأهل الشرك هي دين جميع الرسل منذ الأزل،
وقد كان الناس (منذ وجد آدم) على دين واحد هو دين الإسلام قروناً، حتى ظهر الشرك حدثاً مُحدثاً في قوم نوح، وقد كان أول من أرسله الله تعالى رسولاً إلى أمة مشركة يدعوهم إلى عبادة الله وحده، ونبذ الشرك ونبذ عبادة ما أحدثوه من أصنام وأنداد.
وما إن بدأ دعوته بإذن ربه وظهر في المجتمع من يستجيب إلى هذا الحق الواضح الذي دعا إليه حتى انقسم الناس إلى طائفتين، وقد تحزبت كل طائفة لدينها دفاعاً عنه في مواجهة الطائفة الأخرى، ولكن سنة الله في خلقه كانت قد جرت بأن يكون أتباع الرسل هم الضعفاء الفقراء من القوم، ولم يكن ذلك عيباً أبداً، لأن الشرف في التزام الحق واتباعه، وليس الشرف في اتباع الباطل ولو كان ذا مال وبنين؛ وقد قال تعالى عن هذه المواجهة والمفاصلة :
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ إِنّي لَكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ ، أَن لاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ اللّهَ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ، فَقَالَ الْمَلاُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاّ بَشَراً مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتّبَعَكَ
إِلاّ الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرّأْيِ وَمَا نَرَىَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ [هود:25/27].
قال ابن كثير رحمه الله في هذه الآيات المباركات:
يخبر تعالى عن نوح عليه السلام، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبده الأصنام أنه قال لقومه: ﴿إني لكم نذير مبين﴾ أي ظاهر النذارة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله، ولهذا قال ﴿أن لا تعبدوا إلا الله﴾ وقوله ﴿إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم﴾ أي إن استمررتم على ما أنتم عليه عذبكم الله عذاباً موجعاً شاقاً في الدار الآخرة.
﴿فَقَالَ الْمَلاُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ﴾ وهم السادة والكبراء من الكافرين منهم ﴿مَا نَرَاكَ إِلاّ بَشَراً مّثْلَنَا﴾ أي لست بملك ولكنك بشر، فكيف أوحى إليك من دوننا! ثم ﴿مَا نَرَاكَ اتّبَعَكَ إِلاّ الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ كالباعة والحاكة وأشباههم، ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منا، ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن عن تروٍ منهم ولا فكر ولا نظر، بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك فاتبعوك، ولهذا قالوا ﴿بَادِيَ الرّأْيِ﴾ أي في أول بادئ الرأي.
﴿وَمَا نَرَىَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ يقولون: ما رأينا لكم علينا فضيلة في خلق ولا خلق ولا رزق ولا حال لما دخلتم في دينكم هذا ﴿بَلْ نَظُنّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ أي فيما تدعونه لكم من البرِّ والصلاح والعبادة والسعادة في الدار الآخرة إذا صرتم إليها.
هذا اعتراض الكافرين على نوح عليه السلام وأتباعه، وهو دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم، فإنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه، فإن الحق في نفسه صحيح، سواء اتبعه الأشراف أو الأرازل، بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأرازل ولو كانوا أغنياء. ثم الواقع غالباً أن من يتبع الحق ضعفاء الناس، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته؛ كما قال تعالى:﴿وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مّن نّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىَ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَىَ آثَارِهِم مّقْتَدُونَ﴾ ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن صفات النبي قال له فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال هرقل: هم أتباع الرسل.
وقولهم ﴿بَادِيَ الرّأْيِ﴾ ليس بمذمة أو عيب، لأن الحق إذا وضح لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، بل لابد من اتباع الحق، والحالة هذه لكل ذي ذكاء، بل لا يفكر هاهنا إلا غبي، والرسل صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين، إنما جاءوا بأمر جلي واضح، وقد جاء في الحديث أن رسول الله قال: [ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر، فإنه لم يتلعثم] أي ما تردد ولا تروي، لأنه رأى أمراً جلياً واضحاً فبادر إليه وسارع.
وقوله: ﴿وَمَا نَرَىَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ قال: هم لا يرون ذلك لأنهم عمي عن الحق لا يسمعون ولا يبصرون، بل هم في ريبهم يترددون، في ظلمات الجهل يعمهون، وهم الأفاكون الكاذبون الأقلون الأرذلون، وهم في الآخرة هم الأخسرون أ.هـ.
فهذا هو حال المفاصلة بين أهل الإيمان وأهل الشرك في وصف عام جماعي، وانظر إلى هذه المفاصلة بذاتها على المستوى الفردي بين هذا الرسول العظيم وقومه، وكيف قال الله تعالى في ذكرها:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكّلْتُ فَأَجْمِعُوَاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمّةً ثُمّ اقْضُوَاْ إِلَيّ وَلاَ تُنظِرُونَ فَإِن تَوَلّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:71/72].
قال ابن كثير رحمه الله:﴿إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ﴾ أي بحجة وبراهينه ﴿فَعَلَى اللّهِ تَوَكّلْتُ﴾ أي فإني لا أبالي ولا أكف عنكم سواء عظم عليكم أو لا ﴿فَأَجْمِعُوَاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ﴾ أي فاجتمعوا أنتم وشركاءكم الذين تدعون من دون الله من صنم ووثن ﴿ثُمّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمّةً﴾ أي ولا تجعلوا أمركم عليكم ملتبساً، بل افصلوا حالكم معي، فإن كنتم تزعمون أنكم محقون فاقضوا إلي ﴿وَلاَ تُنظِرُونَ﴾ ولا أخاف منكم لأنكم لستم على شيء أ.هـ
وفي مثل مقام نبي الله نوح كان مقام نبي الله هود، وذلك حين قال الله تعالى عن مفاصلته لقومه:
﴿وَإِلَىَ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ مُفْتَرُونَ،..
إلى قوله تعالى: ﴿قَالُواْ يَهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيَ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ.
إِن نّقُولُ إِلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنّيَ أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُوَاْ أَنّي بَرِيَءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمّ لاَ تُنظِرُونِ﴾ [هود:50/56].
قال ابن كثير عن قوله: ﴿قَالَ إِنّيَ أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُوَاْ أَنّي بَرِيَءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ﴾ يقول إني بريء من جميع الأنداد الأصنام ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً﴾ أي أنتم وآلهتكم، إن كانت حقاً. وقال: وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة ودلالة قاطعة على صدق ما جاءهم به، وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام، التي لا تنفع ولا تضر، وإنما يستحق إخلاص العبادة الله وحده لا شريك له، الذي بيده الملك وله التصرف، وما من شئ إلا تحت ملكه وقهره وسلطانه، فلا إله إلا هو ولا رب سواه أ.هـ.
• وعن هذه المفاصلة حدثنا الله تعالى عن نبي الله صالح مع قومه ثمود وحيث يقول:
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىَ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾ [النمل:45].
قال ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها صالح عليه السلام حين بعثه الله إليهم فدعاهم إلى عبادة وحده لا شريك له ﴿فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾.قال مجاهد: مؤمن وكافر أ.هـ.
• وهذا نبي الله شعيب عليه السلام وقد فاصل قومه لشركهم ودعاهم إلى عبادة الله وحده وترك ما هم عليه من عقائد الشرك ومظاهره. وقد قال تعالى عن هذه الدعوة الشريفة:
﴿وَإِلَىَ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ
الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنّيَ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مّحِيطٍ﴾ [هود:84].
ولم يكن من قومه إلا المعاندة والمشاقة والتهديد وسائر مظاهر المعادة والمفاصلة بين أهل الشرك والعناد في مواجهة حزب الله الموحدين. وانظر إلى قولهم إلى نبيهم الكريم وكما أخبر بحالهم رب العالمين:
﴿قَالُواْ يَشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مّمّا تَقُولُ وَإِنّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ، قَالَ يَقَوْمِ أَرَهْطِيَ أَعَزّ عَلَيْكُم مّنَ اللّهِ وَاتّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنّ رَبّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ هود:91
وفي موضع آخر يذكر لنا المولى تعالى من معالم هذه المفاصلة وأحد مشاهدها الأخرى:
﴿قَالَ الْمَلاُ الّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنّكَ يَشُعَيْبُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ فِي مِلّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنّا كَارِهِينَ ، قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نّعُودَ فِيهَآ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ رَبّنَا وَسِعَ رَبّنَا كُلّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللّهِ تَوَكّلْنَا رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾. [الأعراف:88/89].
وهكذا يتولى موكب الرسل ومن تابعهم من حزب الله الموحدين، ومفاصلتهم الأهل الشرك على مرِّ الزمان. وقد قال تعالى عن خليل الرحمن عليه السلام:
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنّنِي بَرَآءٌ مّمّا تَعْبُدُونَ ، إِلاّ الّذِي فَطَرَنِي فَإِنّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف:26/28].
قال ابن كثير رحمه الله في هذه الآيات المباركات: يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها، أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان؛ فقال ﴿إِنّنِي بَرَآءٌ مّمّا تَعْبُدُونَ * إِلاّ الّذِي فَطَرَنِي فَإِنّهُ سَيَهْدِينِ ، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان وهي [لا إله إلا الله] أي جعلها دائمة في ذريته، يقتدي به فيها من هداه الله تعالى من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام ﴿لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي إليها أ.هـ.
وقد كانت هذه المفاصلة المعلنة من صاحب الملة الحنيفية في مواجهة أهل الشرك هي الأسوة التي أوجبها الله تعالى على جميع عباده الموحدين، وجعلها أحد معالم ومعاني شهادة التوحيد النافية للشرك بكافة صوره، والنافية للمشركين كافة [عابد ومعبود بغير حق] وقد أمر الله بجهادهم كافة، وكما قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفّةً﴾ [التوبة:36].
وهكذا تجيء النصوص بالحقائق الشرعية الأصلية الكبيرة صريحة بلا لبس ولا غموض، ومفصلاً بلا إجمال ولا إبهام، كما يجيء التكليف العام بها بنفس الكيفية من الوضوح والصراحة، وقد قال تعالى:
﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيَ إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَءآؤاْ مّنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتّىَ تُؤْمِنُواْ بِاللّهِ وَحْدَهُ إِلاّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ﴾ [الممتحنة:4].
فهذا ما قاله الله تعالى لعباده المؤمنين، الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم دائماً أبداً، أن يوحدوا الله تعالى فلا يشركوا به شيئاً، وأن لهم في خليل الرحمن إبراهيم والذين معه الأسوة الحسنة وبهذه المفاصلة وعليها تأسست عقيدة التوحيد التي دعا إليها محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وواجه بها قومه، بل والناس أجمعين. فقد قال تعالى في ذلك: [يونس:104/105].
﴿قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكّ مّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الّذِي يَتَوَفّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعال لرسوله محمد ﴿قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكّ﴾ من صحة ما جئتكم به من الدين الحنيف الذي أوحاه الله إليَّ فأنا لا أعبد الذي تعبدون من دون الله، ولكن أعبد الله وحده لا شريك له، وهو الذي يتوفاكم، كما أحياكم ثم إليه مرجعكم.
وقوله ﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً﴾ أي أخلص العبادة لله وحده، حنيفاً أي منحرفاً عن الشرك. ولهذا قال ﴿وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وهو معطوف على قوله: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أ.هـ.
فانظر إلى هذا النهي ﴿وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ المعطوف على هذا الأمر ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين﴾ تعلم أن المرء لا يكون من المؤمنين إلا إذا اجتمع مع الإيمان بالله مفاصلة المشركين، فبرئ منهم ومما يعبدون من دون الله ، فهكذا يكون [الإيمان بالله وحده] .
قال الشيخ حمد بن عتيق : فأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم: ﴿يا أيها الناس….﴾ إلى آخره.. أي إذا شككتم في الدين الذي أنا عليه فدينكم الذي أنتم عليه أنا برئ منه، وقد أمرني ربي أن أكون من المؤمنين الذين هم أعداؤكم ونهاني أن أكون من المشركين الذين هم أولياؤكم. وقال تعالى ﴿قُلْ يَأَيّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ إلى أخر السورة. فأمر الله ورسوله أن يقول للكفار: دينكم الذي أنتم عليه أنا بريء منه، وديني الذي أنا عليه أنتم براء منه.
والمراد: التصريح لهم بأنهم على الكفر، وأنه بريء منهم ومن دينهم. فمن كان متبعاً للنبي فعليه أن يقول ذلك، ولا يكون مظهراً لدينه إلا بذلك. ولهذا لما عمل الصحابة بذلك وآذاهم المشركون أمرهم النبي بالهجرة إلى الحبشة. ولو وجد لهم رخصة في السكوت عن المشركين لما أمرهم بالهجرة إلى بلد الغربة. أ.هـ
مفاصلة المشركين هي البراءة منهم، والبراءة منهم لم تكن إلا لكفرهم بالله الواحد القهار،
والبراءة منهم لم يكن لها من هيئة شرعية إلا هيئة تكفيرهم، ومعاداتهم وبغضهم لذلك حتى يؤمنوا بالله وحده.
فهذه هي الغاية التي أوجبها الله تعالى والزمها أهل الإيمان في مواجهة أهل الكفر والشرك، فإذا تحققت هذه الغايةوتم الإيمان بالله وحده تنتهي هذه المفاصلة والبراءة، لتبدأ عندها معاني الولاء بينهم وبين أهل الإيمان مع اجتماعهم على هذا الدين الواحد، ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين.
لقد كانت هذه المفاصلة بين أهل الإيمان وأهل الشرك هي دين جميع الرسل منذ الأزل،
وقد كان الناس (منذ وجد آدم) على دين واحد هو دين الإسلام قروناً، حتى ظهر الشرك حدثاً مُحدثاً في قوم نوح، وقد كان أول من أرسله الله تعالى رسولاً إلى أمة مشركة يدعوهم إلى عبادة الله وحده، ونبذ الشرك ونبذ عبادة ما أحدثوه من أصنام وأنداد.
وما إن بدأ دعوته بإذن ربه وظهر في المجتمع من يستجيب إلى هذا الحق الواضح الذي دعا إليه حتى انقسم الناس إلى طائفتين، وقد تحزبت كل طائفة لدينها دفاعاً عنه في مواجهة الطائفة الأخرى، ولكن سنة الله في خلقه كانت قد جرت بأن يكون أتباع الرسل هم الضعفاء الفقراء من القوم، ولم يكن ذلك عيباً أبداً، لأن الشرف في التزام الحق واتباعه، وليس الشرف في اتباع الباطل ولو كان ذا مال وبنين؛ وقد قال تعالى عن هذه المواجهة والمفاصلة :
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ إِنّي لَكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ ، أَن لاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ اللّهَ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ، فَقَالَ الْمَلاُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاّ بَشَراً مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتّبَعَكَ
إِلاّ الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرّأْيِ وَمَا نَرَىَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ [هود:25/27].
قال ابن كثير رحمه الله في هذه الآيات المباركات:
يخبر تعالى عن نوح عليه السلام، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبده الأصنام أنه قال لقومه: ﴿إني لكم نذير مبين﴾ أي ظاهر النذارة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله، ولهذا قال ﴿أن لا تعبدوا إلا الله﴾ وقوله ﴿إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم﴾ أي إن استمررتم على ما أنتم عليه عذبكم الله عذاباً موجعاً شاقاً في الدار الآخرة.
﴿فَقَالَ الْمَلاُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ﴾ وهم السادة والكبراء من الكافرين منهم ﴿مَا نَرَاكَ إِلاّ بَشَراً مّثْلَنَا﴾ أي لست بملك ولكنك بشر، فكيف أوحى إليك من دوننا! ثم ﴿مَا نَرَاكَ اتّبَعَكَ إِلاّ الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ كالباعة والحاكة وأشباههم، ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منا، ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن عن تروٍ منهم ولا فكر ولا نظر، بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك فاتبعوك، ولهذا قالوا ﴿بَادِيَ الرّأْيِ﴾ أي في أول بادئ الرأي.
﴿وَمَا نَرَىَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ يقولون: ما رأينا لكم علينا فضيلة في خلق ولا خلق ولا رزق ولا حال لما دخلتم في دينكم هذا ﴿بَلْ نَظُنّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ أي فيما تدعونه لكم من البرِّ والصلاح والعبادة والسعادة في الدار الآخرة إذا صرتم إليها.
هذا اعتراض الكافرين على نوح عليه السلام وأتباعه، وهو دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم، فإنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه، فإن الحق في نفسه صحيح، سواء اتبعه الأشراف أو الأرازل، بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأرازل ولو كانوا أغنياء. ثم الواقع غالباً أن من يتبع الحق ضعفاء الناس، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته؛ كما قال تعالى:﴿وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مّن نّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىَ أُمّةٍ وَإِنّا عَلَىَ آثَارِهِم مّقْتَدُونَ﴾ ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن صفات النبي قال له فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال هرقل: هم أتباع الرسل.
وقولهم ﴿بَادِيَ الرّأْيِ﴾ ليس بمذمة أو عيب، لأن الحق إذا وضح لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، بل لابد من اتباع الحق، والحالة هذه لكل ذي ذكاء، بل لا يفكر هاهنا إلا غبي، والرسل صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين، إنما جاءوا بأمر جلي واضح، وقد جاء في الحديث أن رسول الله قال: [ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر، فإنه لم يتلعثم] أي ما تردد ولا تروي، لأنه رأى أمراً جلياً واضحاً فبادر إليه وسارع.
وقوله: ﴿وَمَا نَرَىَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ قال: هم لا يرون ذلك لأنهم عمي عن الحق لا يسمعون ولا يبصرون، بل هم في ريبهم يترددون، في ظلمات الجهل يعمهون، وهم الأفاكون الكاذبون الأقلون الأرذلون، وهم في الآخرة هم الأخسرون أ.هـ.
فهذا هو حال المفاصلة بين أهل الإيمان وأهل الشرك في وصف عام جماعي، وانظر إلى هذه المفاصلة بذاتها على المستوى الفردي بين هذا الرسول العظيم وقومه، وكيف قال الله تعالى في ذكرها:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكّلْتُ فَأَجْمِعُوَاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمّةً ثُمّ اقْضُوَاْ إِلَيّ وَلاَ تُنظِرُونَ فَإِن تَوَلّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:71/72].
قال ابن كثير رحمه الله:﴿إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ﴾ أي بحجة وبراهينه ﴿فَعَلَى اللّهِ تَوَكّلْتُ﴾ أي فإني لا أبالي ولا أكف عنكم سواء عظم عليكم أو لا ﴿فَأَجْمِعُوَاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ﴾ أي فاجتمعوا أنتم وشركاءكم الذين تدعون من دون الله من صنم ووثن ﴿ثُمّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمّةً﴾ أي ولا تجعلوا أمركم عليكم ملتبساً، بل افصلوا حالكم معي، فإن كنتم تزعمون أنكم محقون فاقضوا إلي ﴿وَلاَ تُنظِرُونَ﴾ ولا أخاف منكم لأنكم لستم على شيء أ.هـ
وفي مثل مقام نبي الله نوح كان مقام نبي الله هود، وذلك حين قال الله تعالى عن مفاصلته لقومه:
﴿وَإِلَىَ عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ مُفْتَرُونَ،..
إلى قوله تعالى: ﴿قَالُواْ يَهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيَ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ.
إِن نّقُولُ إِلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنّيَ أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُوَاْ أَنّي بَرِيَءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمّ لاَ تُنظِرُونِ﴾ [هود:50/56].
قال ابن كثير عن قوله: ﴿قَالَ إِنّيَ أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُوَاْ أَنّي بَرِيَءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ﴾ يقول إني بريء من جميع الأنداد الأصنام ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً﴾ أي أنتم وآلهتكم، إن كانت حقاً. وقال: وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة ودلالة قاطعة على صدق ما جاءهم به، وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام، التي لا تنفع ولا تضر، وإنما يستحق إخلاص العبادة الله وحده لا شريك له، الذي بيده الملك وله التصرف، وما من شئ إلا تحت ملكه وقهره وسلطانه، فلا إله إلا هو ولا رب سواه أ.هـ.
• وعن هذه المفاصلة حدثنا الله تعالى عن نبي الله صالح مع قومه ثمود وحيث يقول:
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىَ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾ [النمل:45].
قال ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها صالح عليه السلام حين بعثه الله إليهم فدعاهم إلى عبادة وحده لا شريك له ﴿فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾.قال مجاهد: مؤمن وكافر أ.هـ.
• وهذا نبي الله شعيب عليه السلام وقد فاصل قومه لشركهم ودعاهم إلى عبادة الله وحده وترك ما هم عليه من عقائد الشرك ومظاهره. وقد قال تعالى عن هذه الدعوة الشريفة:
﴿وَإِلَىَ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ
الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنّيَ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مّحِيطٍ﴾ [هود:84].
ولم يكن من قومه إلا المعاندة والمشاقة والتهديد وسائر مظاهر المعادة والمفاصلة بين أهل الشرك والعناد في مواجهة حزب الله الموحدين. وانظر إلى قولهم إلى نبيهم الكريم وكما أخبر بحالهم رب العالمين:
﴿قَالُواْ يَشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مّمّا تَقُولُ وَإِنّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ، قَالَ يَقَوْمِ أَرَهْطِيَ أَعَزّ عَلَيْكُم مّنَ اللّهِ وَاتّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنّ رَبّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ هود:91
وفي موضع آخر يذكر لنا المولى تعالى من معالم هذه المفاصلة وأحد مشاهدها الأخرى:
﴿قَالَ الْمَلاُ الّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنّكَ يَشُعَيْبُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنّ فِي مِلّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنّا كَارِهِينَ ، قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نّعُودَ فِيهَآ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ رَبّنَا وَسِعَ رَبّنَا كُلّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللّهِ تَوَكّلْنَا رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾. [الأعراف:88/89].
وهكذا يتولى موكب الرسل ومن تابعهم من حزب الله الموحدين، ومفاصلتهم الأهل الشرك على مرِّ الزمان. وقد قال تعالى عن خليل الرحمن عليه السلام:
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنّنِي بَرَآءٌ مّمّا تَعْبُدُونَ ، إِلاّ الّذِي فَطَرَنِي فَإِنّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف:26/28].
قال ابن كثير رحمه الله في هذه الآيات المباركات: يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها، أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان؛ فقال ﴿إِنّنِي بَرَآءٌ مّمّا تَعْبُدُونَ * إِلاّ الّذِي فَطَرَنِي فَإِنّهُ سَيَهْدِينِ ، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان وهي [لا إله إلا الله] أي جعلها دائمة في ذريته، يقتدي به فيها من هداه الله تعالى من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام ﴿لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي إليها أ.هـ.
وقد كانت هذه المفاصلة المعلنة من صاحب الملة الحنيفية في مواجهة أهل الشرك هي الأسوة التي أوجبها الله تعالى على جميع عباده الموحدين، وجعلها أحد معالم ومعاني شهادة التوحيد النافية للشرك بكافة صوره، والنافية للمشركين كافة [عابد ومعبود بغير حق] وقد أمر الله بجهادهم كافة، وكما قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفّةً﴾ [التوبة:36].
وهكذا تجيء النصوص بالحقائق الشرعية الأصلية الكبيرة صريحة بلا لبس ولا غموض، ومفصلاً بلا إجمال ولا إبهام، كما يجيء التكليف العام بها بنفس الكيفية من الوضوح والصراحة، وقد قال تعالى:
﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيَ إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَءآؤاْ مّنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتّىَ تُؤْمِنُواْ بِاللّهِ وَحْدَهُ إِلاّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ﴾ [الممتحنة:4].
فهذا ما قاله الله تعالى لعباده المؤمنين، الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم دائماً أبداً، أن يوحدوا الله تعالى فلا يشركوا به شيئاً، وأن لهم في خليل الرحمن إبراهيم والذين معه الأسوة الحسنة وبهذه المفاصلة وعليها تأسست عقيدة التوحيد التي دعا إليها محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وواجه بها قومه، بل والناس أجمعين. فقد قال تعالى في ذلك: [يونس:104/105].
﴿قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكّ مّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الّذِي يَتَوَفّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعال لرسوله محمد ﴿قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكّ﴾ من صحة ما جئتكم به من الدين الحنيف الذي أوحاه الله إليَّ فأنا لا أعبد الذي تعبدون من دون الله، ولكن أعبد الله وحده لا شريك له، وهو الذي يتوفاكم، كما أحياكم ثم إليه مرجعكم.
وقوله ﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً﴾ أي أخلص العبادة لله وحده، حنيفاً أي منحرفاً عن الشرك. ولهذا قال ﴿وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وهو معطوف على قوله: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أ.هـ.
فانظر إلى هذا النهي ﴿وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ المعطوف على هذا الأمر ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين﴾ تعلم أن المرء لا يكون من المؤمنين إلا إذا اجتمع مع الإيمان بالله مفاصلة المشركين، فبرئ منهم ومما يعبدون من دون الله ، فهكذا يكون [الإيمان بالله وحده] .
قال الشيخ حمد بن عتيق : فأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم: ﴿يا أيها الناس….﴾ إلى آخره.. أي إذا شككتم في الدين الذي أنا عليه فدينكم الذي أنتم عليه أنا برئ منه، وقد أمرني ربي أن أكون من المؤمنين الذين هم أعداؤكم ونهاني أن أكون من المشركين الذين هم أولياؤكم. وقال تعالى ﴿قُلْ يَأَيّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ إلى أخر السورة. فأمر الله ورسوله أن يقول للكفار: دينكم الذي أنتم عليه أنا بريء منه، وديني الذي أنا عليه أنتم براء منه.
والمراد: التصريح لهم بأنهم على الكفر، وأنه بريء منهم ومن دينهم. فمن كان متبعاً للنبي فعليه أن يقول ذلك، ولا يكون مظهراً لدينه إلا بذلك. ولهذا لما عمل الصحابة بذلك وآذاهم المشركون أمرهم النبي بالهجرة إلى الحبشة. ولو وجد لهم رخصة في السكوت عن المشركين لما أمرهم بالهجرة إلى بلد الغربة. أ.هـ