بواسطةشُــــــــــــبهات وردود
-الكــلام هنا ليس سـردآ للأدلة أو نقلآ للإجمــاع ولا نقاشآ حولها
فقد أشبعنا هـذا الأمر طرحآ ومناقشة وبيانآ بفضل الله ،بل هو بمثابة التنبيه إلى أصول ومنطلقات الأقوال التي ترجع اليها مسألتنا وهي مسألة العذر بالجهــل ،وأحرص على ذكر بعض الجوانب المغيبة أو التي يُتغاضي عنها في المسألة ، وأتناولها بطريقة مختلفة عن الطريقة التقليدية في سرد الأدلة وحشد النقولات، لعل أن تتكشف بعض المعاني التي قد تغيب في زحمة الردود وحماس المناقشات ، فتساعد على تصور المسالة وبيان الحق ، والله الموفـــق
الأصل الأول : حقيقة الإيمان والكفر..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-فالإيمان والكفر متقابلان إذا زال أحدهما خلفه الآخر ، ولا يجتمع أصل الإيمان وأصل الكفر قط ، كما لا يرتفع أصل الإيمان وأصل الكفر قط .كما قال سبحانه :"هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن "فهما لا يجتمعان ولا يرتفعان في آن واحد ،فالتوحيد والشرك نقيضان لا يجتمعان في شخص واحد ولا يرتفعان عن الشخص البته فكل عبد إما أن يكون مسلما وإما أن يكون مشركا كافرا ولا يخلو من أحد الوصفين ومحال أن يكون الشخص مسلم مشرك لأن اجتماع النقيضين محال عقلآ وشرعآ
ولكن قد تجتمع شعبة من شعب الكفر مع أصل الإيمان إذ أن الكفر أصل ذو شعب ، كما قد تجتمع شعبة من شعب الإيمان مع أصل الكفر فالإيمان أيضا أصل ذو شعب ... وهذا من أعظم أصول أهل السنة والجماعة ...
وعندما نتكلم عن الإيمان الذي يقابله الكفر فإننا لا نتكلم عن الإيمان الكامل أو الواجب ، بل نتكلم عن أصله وحقيقته وهو توحيد الله سبحانه وتعالى ...
هذه الحقيقة التي خلق الله الخلق لأجلها وفطرهم عليها وأرسل إليهم رسله وانزل كتبه ليعبد الله وحده لا شريك له، و يعبد بما شرع على ألسنة رُسله صلوات الله وسلامه عليهم ....
قال سبحانه :"وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون"
وقال سبحانه:"ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت"
والكفر في اللغة هو الستر والتغطية - وفي الاصطلاح فهو : "ضد الإيمان"
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
( والكفر عدم الإيمان باتفاق المسلمين سواء "اعتقد نقيضه وتكلم به"أو "لم يعتقد شيئا ولم يتكلم"ولا فرق في ذلك ) مجموع الفتاوى ( 20 / 86 )
ومعنى قوله رحمه الله أن الكفر عدم الإيمان ،أن من لم يأت بالإيمان فقد كفر...
وهو على ضربين :-
- ضرب لم يأت به ولم يحققه وهذا هو الكافر الأصلي ..
- وضرب أتى بالإيمان ثم ارتكب بعد ذلك بما ينقضه من المكفرات القولية أو العملية ..
فكل من لم يأت بالإيمان أو يحققه سواء من لم يأت به أصلا أو أتى به ثم نقضه فقد لابس الكفر قطعا .. وسواء كان كفره أصليا أو طارئا....
قال ابن القيم رحمه الله :
( والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ، والإيمان بالله وبرسوله وإتباعه فيما جاء به ، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم ، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل ..)
فما لم يأت العبد بالإيمان فليس بمسلم سواء اعتقد نقيضه وتكلم به"أو "لم يعتقد شيئا ولم يتكلم"ولا فرق في ذلك...
-قال الصَّنعانيّ في "تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد":
"صرح الفقهاء في كتب الفقه في باب الرِّدَّة:
أَنَّ من تكلَّم بكلمة الكفر يكفر وإِنْ لم يقصد معناها".
-قال ابن نُجيم في "البحر الرائق شرح كنز الدقائق"
"إنَّ مَن تكلَّم بكلمة الكفر هازلاً أوْ لاعبًا كفر عند الكُلّ ولا اعتبار باعتقاده"
وكل ما يحيد بالمكلف عن تحقيق هذا فليس بعذر في كون صاحبه ليس بمسلم .. سواء كان جاهلا أو غير ذلك ، وإن كان قد يعذر لعدم البلاغ في لحوق العذاب به ...
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
"... وفى السنن عن عوف بن مالك قال قال رسول الله أتاني آت من عند ربى فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهى لمن مات لا يشرك بالله شيئا
وفى لفظ قال ومن لقي الله لا يشرك به شيئا فهو في شفاعتي وهذا الأصل وهو التوحيد هو أصل الدين الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينا غيره وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب كما قال تعالى "واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون..."
هذا هو الأصل الأول
وخلاصته أن حقيقة الإيمان التي قررها الشارع سبحانه منتفية في حق المشرك الذي أشرك بربه ، فإذا ثبت الكفر والشرك فقد انتفى عنه الإيمان ضرورة ..
فمن يثبت له الإيمان بعد ذلك فإنما يثبته بغير موجب أو يثبته على غير قواعد أهل السنة ...
الأصـــل الثـاني :
ــــــــــــــــــــــــ
- النصوص الواردة في المسالة ..
لا يوجد نص صريح في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع للأمة يدل على العذر بالجهل في التوحيد وأصل الدين فضلا عن عموم العذر بالجهل في كل مسائل الشريعة ...
ولاشك أنه مع تقرير الأصل السابق لا يمكن أن يكون ثمة نص أو نصوص من الكتاب والسنة تثبت الإسلام لمن يشرك بالله سبحانه وتعالى الشرك الأكبر المخرج من الملة ...
فيمتنع أن توجد نصوص تقرر اجتماع الإسلام والكفر، والشرك والتوحيد في رجل واحد في آن واحد ... هذا لا يكون قط في شرع الله ...
- ومن هذا المنطلق
فالقائلون بالعذر يشعرون بضعف مأخذهم في المسالة فأخذوا يحشدون الأدلة حشدا غير مبالين بأصول الاستدلال ولا بدلالات النصوص ، ولا مراتب الأدلة ، فالمفهوم كما المنطوق والنص كالظاهر والقطعي كالظني ، وهكذا الكل يتكلم والكل يستدل ،
حتى وصل الأمر ببعضهم أنه اتهم موسى كليم الله بالجهل لأنه ألقى الألواح وعذره الله بالجهل ! ،
ومنهم من اتهم إبراهيم عليه السلام إمام الحنفاء الموحدين وقدوة رسولنا الأمين عليه الصلاة والسلام لما قال عن القمر هذا ربي...
بل منهم من اتهم إمام العلماء معاذ ابن جبل بجهل التوحيد الذي علمه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير واسطة حيث كان رديفه على الحمار،والذي أرسله إلى اليمن داعيا ومعلما ، والذي قال فيه عليه الصلاة والسلام يسبق العلماء يوم القيامة برتوة
حتي أم المؤمنين لم تسلم من كلامهم واتهموا رسول الله في شخصها إذ لم يعلمها التوحيد ،ولله المشتكي
فلا حفظوا قدر الأنبياء وزوجاتهم ولا أصحابهم العلماء لأجل تقرير مثل هذه المسالة
.. فأي دين هــذا ؟ وإنا لله وإنا إليه راجعون ؟!
ولكان أغنى من ذلك كله نص واحد صحيح صريح في المسألة لو وجد !
ألا يرون أن أعظم الأعذار في الشريعة وهو الإكراه لا يذكر عند تقريره إلا آية واحدة أو حديث ؟!
ومع ذلك فلا يخالف فيه إلا زائغ بالاتفاق ، وأن العبرة ليست بكثرة الأدلة بقدر ثبوت الدليل وقطعية دلالته ، بل الغالب أن دليلا واحدا يكفي لتقرير أعظم المسائل إذا كان نصآ فيها ...
ولكن القوم بدلا من أن يجعلوا التوحيد قضيتهم جعلوه أحد هوامشهم وأخذوا يبررون للناس وقوعهم في الشرك بكثرة التلبيس الواقع ويعتذرون لهم بالجهل ...
الأصــل الثـالـث :
ـــــــــــــــــــــــ
وهي اختلاف الجهل كعذر عن غيره من الأعذار الأخرى كالنسيان والإكراه.. أوالخطأ في عدم قصد القول اوالعمل المكفر
فالجهل في حد ذاته لا يمنع من قيام حقيقة الكفر في نفس العبد ، ولا يحول دون تلازم الظاهر بالباطن ، فالذي يشرك بربه سبحانه وتعالى ما أشرك في عبادته إلا وقد سبق ذلك الشرك شرك آخر في ربوبيته وأسماءه وصفاته ، فلا يستغيث بغير الله في مالا يقدر عليه إلا الله إلا ويعتقد في المستغاث قدرة لا تكون إلا لله وعلما لا يكون إلا لله وصفات لا تكون إلا لله وهكذا في كل نوع شرك يشرك بالله فيه ....وهذا لا فرق فيه بين العالم والجاهل ...
والذي يسب الله جاهلا أن حكم هذا العمل كفر، هو كمن يسبه عالما أن حكم هذا العمل كفر.. فكلاهما زال عنه عمل القلب وهو تعظيم الرب سبحانه وتعالى ،إلا أن العالم يزيد كفره عن كفر الجاهل بما يوجب له تغليظ العقوبة ..
فالكفر يزيد في دركاته كما أن الإيمان يزيد في درجاته ...
قال تعالى : "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ"آل عمران
وقال سبحانه : "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً "النساء
والمشرك الجاهل تقوم في نفسه من حقائق العبودية لغير الله كما تقوم في العالم تماما وكما كانت قائمة في أهلها قبل مبعث جميع الرسل ، وإن كان لا يتصور عالما يشرك بالله إلا على وجه يتأول فيه هذا الشرك بنوع من الجهل
كما ذكر سبحانه عنهم : "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"
-وهذا بخلاف بقية الأعذار كالنسيان والإكراه ،فلا تقوم بها حقيقة الكفر في نفس العبد ولا يتلازم الظاهر بالباطن مع وجوده هذه الأعذار ضرورة انتفاء القصد (قصد الفعل اوالقول ،وليس قصد الكفر)والإرادة والاختيار ..
- بل شرط كونها عذرا لصاحبها أن يطمئن قلبه بالإيمان ولا ينشرح بالكفر صدره ومع ذلك فالأدلة على عموم هذه الأعذار بينة بخلاف الجهل ...
- ولذلك لا يمكن أن يقال عن الجاهل الذي يشرك بربه أنه وحد الله في العبادة ،أو أنه أخلص العبادة لله .. أو يقال هذا موحد ... هذا لا يتأتى عقلا
(إلا على مذهب أهل التثليث ) فضلا عن تقريره شرعا ..
فالشرك نقض لحقيقة الدين وأصل الرسالة ،فلا ينفع مع هذا كون فاعله جاهل أو غيره ... وبيان هذا واجب متحتم على كل موحد ... وبيان غيره تغرير بالجاهل وتغيب لحقيقة الدين التي أرسل الله لها جميع رسله وأنزل جميع كتبه ...
- فكل شرك في الإلوهية سبقه أضعاف هذا الشرك في الأسماء والصفات والربوبية وهذا كله معلوم بالضرورة العقلية قبل أن يعلم بالدلائل الشرعية ...
ولهذا لو قيل ما الفرق في قيام حقيقة العبودية لغير الله بين الجاهل والعالم لما كان ثمة فرق وهي منازل في الشرك بها يتفاضلون ، وضلال يتبع بعضهم بعضا في دركاته ...
وهذه حقيقة الرؤساء والمتبوعين والضلال والمضلين كلهم قامت في قلوبهم حقائق العبودية لغير الله
ولو نعتوهم ليل نهار بنعوت الإسلام فلا والله ليس هذا هو الإسلام وليس هؤلاء بالمسلمين...
هذه هي الأصول الهامة التي تعد منطلقا فيما أرى ،
___________________________________
وثمة أصول أخرى ذات علاقة بالموضوع جائت ردآ على أصول وأدلة من يقول بالعذر منها :
- أنه لا تلازم بين أحكام الكفر والإيمان في الدنيا وأحكام الثواب والعذاب في الآخرة ..
- أنه لا فرق بين الكافر الأصلي وبين الكافر الطارئ في أن كلاهما لم يأتي بحقيقة الإيمان ..
- ثبوت وصف الشرك قبل قيام الحجة الرسالية وعدم تأثير الجهل على ذلك ...
- تقرير أن الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل ،فمن يشرك بالله فقد نقض ركن العمل ولا يثبت له الإسلام بالقول دون العمل إلا على منهج المرجئة ..
- تقرير أن قصد الكفر غير معتبر في التكفير والدليل على ذلك إجماع الأمة على كفر الهازل مع عدم قصده للكفر قطعا ...
هذا ما يظهر لي والله أعلم
وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
شُــــــــــــبهات وردود