بواسطة د/ ماجد كارم صفحةشُــــــــــــبهات وردود
قال ابن القيم رحمه الله تعالى
في شرح المنازل في باب التوبة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر، فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كحب الله، بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويغضبون لتنقص معبوديهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا تنقص أحد رب العالمين. وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده على لسانه إن قام وإن قعد وإن عثر وإن استوحش، وهو لا ينكر ذلك ويزعم أنه حاجته إلى الله وشفيعه عنده؛ وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم. فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وهؤلاء اتخذوها من البشر.
قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ }.
فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا يزعم أنه يقربه إلى الله زلفى، وما أعز من يتخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره. والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك، وقد أنكر الله عليهم في كتابه وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له.
وقال تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا } وقوله: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ }
والقرآن مملوء من مثل هذه الآية، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين المرء وبين فهم القرآن، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية. وهذا لأنه إذا لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا، والبدعة سنة والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا. فالله المستعان.
ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى والاستعانة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله. وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، والميت يحتاج لمن يدعو له، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا وأنهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم!
ولله در خليله إبراهيم عليه السلام حيث قال: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ } الآية، وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله، وتقرب بمقتهم إلى الله. انتهى كلامه رحمه الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فتأمل رحمك الله كلام هذا الإمام، وتصريحه بأن من دعا الموتى وتوجه إليهم واستغاث بهم ليشفعوا له عند الله فقد فعل الشرك الأكبر الذي بعث محمد صلى الله عليه وسلم بإنكاره وتكفير من لم يتب منه وقتاله ومعاداته، وأن هذا قد وقع في زمانه وأنهم غيروا دين الرسول صلى الله عليه وسلم وعادوا أهل التوحيد الذين يأمرونهم بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له.
وتأمل قوله أيضا: وما أعز من يتخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره. يتبين لك الأمر إن شاء الله تعالى، ولكن تأمل أرشدك الله تعالى قوله: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين لله .إلى آخره، يتبين لك أن الإسلام لا يستقيم إلا بمعاداة أهل الشرك، فإن لم يعادهم فهو منهم وإن لم يفعله، والله أعلم.