د.ماجد كارم
ما هو الدليل على أن العبد حتى لو نطق الشهادتين وأدى بعض الشعائر الإسلامية ولكنه مازال واقعاً في أحد أنواع الشرك الأكبر أنه لا يعتبرمسلماً حتى ينخلع من الشرك الأكبر بجميع أشكاله وأنواعه ؟
الجواب : الأدلة على ذلك كثيرة جدا . منها :
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1-قال الله تعالى :فَإِذَا انسَلخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَاةَ فَخَلّواْ سَبِيلَهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ[التوبة: 5]
قال القرطبي :-"فان تابوا أي :- من الشرك ، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم . هذه الآية فيها تأمّل وذلك أن الله تعالى علق القتل على الشرك ، ثم قال:- فان تابوا ، والأصل أن القتل متى كان للشرك يزول بزواله ، وذلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة ، من غير اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة والزكاة ، وهذا بين في هذا المعنى . غير أن الله تعالى ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين فلا سبيل إلى إلغائهما . نظيره قولـه : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ).
وقال ابن العربي :- فانتظم القرآن والسنة واطردا ."اهـ
انظر – هداك الله – إلى كلام الإمام القرطبي :- أن التوبة تكون من الشرك، وأن القتل لا يسقط إلا بالانتهاء عنه ، وقول الإمام ابن العربي :- أن الآية والحديث قد انتظما واتحد معناهما . فبنص القرآن أن الانتهاء عن القتل والأسر وتخلية سبيل المشركين ، شرطه :- التوبة من الشرك . وأن الآية والحديث ( أمرت أن أقاتل الناس) معناهما واحد .
وقال ابن كثير :- وقال الإمام الطبري : - عن الربيع عن أنس قال :- قال رسول الله : ( من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا يشرك به شيئا ، فارقها والله عنه راض ) قال :- وقال أنس :- هو دين الله الذي جاءت به الرسل، وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء ، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنـزل الله . قـال الله تـعـالى : فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم قال :- توبتهم ، خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة . ثم قـال في آية أخرى فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ورواه ابن مردويه ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة . اهـ
وقال الإمام الطبري :في قوله تعالي "فان تابوا يقول :- فان رجعوا عما هم عليه من الشرك بالله ، وجحود نبوة نبيه محمد ، إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد ، والإقرار بنبوة محمد ."
2- قوله تعالى :- فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَنُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [التوبة: 11]
قال القرطبي :- قوله تعالى :- فان تابوا أي : عن الشرك ، والتزموا أحكام الإسلام فإخوانكم أي :- فهم إخوانكم في الدين . قال ابن عباس : حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة. اهـ
وقال الإمام البغوي :- فان تابوا من الشرك … فإخوانكم، فهم إخوانكم في الدين ، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم . اهـ
فهذه الآية نص على أن القتال لا يرتفع عن المشركين كافة إلا بالتوبة ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة يعني الالتزام بأحكام الإسلام .
واتفق السلف على أن المراد بالتوبة :- البراءة من الشرك ، وخلع عبادة الأوثان والأنداد والطواغيت ، وكل ما يعبد من دون الله مع التزام أحكام الإسلام . وأن هذه الآية مع الحديث :- ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ) قد اتحد معناهما وانتظما .
واتفاق المفسرين عند تفسير هذه الآية بإتيان هذا الحديث وأمثاله لهو أدل دليل على أن الحديث أيضا يثبت نفس المعنى ، وهو أن القتال لا يرفع إلا بالانتهاء عن الشرك والتزام أحكام الإسلام ، وهو مراد قوله ( إلا بحقها ).
ويؤكد هذا أيضا الحديث الصحيح الصريح :- ( من قال لا اله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله ) ولذلك بوب إمام المحدثين البخاري بابا في صحيحه :- ( فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) ، ثم ساق بسنده عن ابن عمر أن رسول الله قال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله ).
قال ابن حجر العسقلاني :- (... وانما جعل الحديث تفسيراً للآية، لأن المراد بالتوبة في الآية الـرجوع عـن الكفر إلى التوحيد ، ففسره قوله : (حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله ). وبين الآية والحديث مناسبة أخرى لأن التخلية في الآية والعصمة في الحديث بمعنى واحد . اهـ
قال الإمام الشوكاني :- "وليس مجرد قول لا اله إلا الله من دون عمل بمعناها مثبتاً للإسلام ، فإنه لو قالها أحد من أهل الجاهلية ، وعكف على صنمه يعبده لم يكن ذلك إسلاماً . "اهـ
وقال أيضا : -"لا شك أن من قال لا اله إلا الله ، ولم يتبين من أفعاله ما يخالف معنى التوحيد ، فهو مسلم محقون الدم والمال إذا جاء بأركان الإسلام المذكورة في حديث ( أمرت أن أقاتل الناس …) وهكذا من قال لا اله إلا الله متشهداً بها شهادة الإسلام ، ولم يكن قد مضى عليه من الوقت ما يجب منه شيء من أركان الإسلام ، فالواجب حمله على الإسلام عملا بما أقر به لسانه وأخبر به من أراد قتاله ، ولهذا قال لأسامة بن زيد ما قال ، وأما من تكلم بكلمة التوحيد وفعل أفعالاً تخالف التوحيد، كاعتقاد هؤلاء المعتقدين في الأموات ، فلا ريب أنه قد تبين من حالهم خلاف ما حكته ألسنتهم من إقرارهم بالتوحيد ، ولو كان مجرد التكلم بكلمة التوحيد موجباً للدخول في الإسلام والخروج من الكفر ، سواء فعل المتكلم بها ما يطابق التوحيد أو ما يخالفه ، لكانت نافعة لليهود مع أنهم يقولون عزير بن الله ، وللنصارى مع أنهم يقولون المسيح بن الله ، وللمنافقين مع أنهم يكذبون بالدين ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم . وجميع هذه الطوائف الثلاث يتكلمون بكلمة التوحيد ."اهـ
قال الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الحنبلي :- ( ولهما عن ابن عمر مرفوعا أن قال :- ( أمرت أن أقاتل الناس …) أي المشركين منهم (حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله )، والمراد العلم بمعناها والعمل بمقتضاها… (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ) فهما ركنان لا يستقيم إسلام العبد إلا بهما ( فإذا فعلوا ذلك) أي :- لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، ( عصموا مني دماءهم وأموالهم ) فلا يحل قتالهم حتى يأتوا بمناف للشهادتين ( إلا بحق الإسلام ) وهو التزام شرائعه . قال أبو بكر ( لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على ذلك ) "
ــــــــــــــــــــــــــــــ
3 - قال تعالى :- وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ فَإِنِ انْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظّالِمِينَ [البقرة: 193]
فهذا النص يدل على أن القتال لا يرفع عن رؤوس المشركين إلا بانتهائهم وإقلاعهم وتبرئهم من كل ما يعبد من دون الله مع إخلاص العبادة لله الواحد القهّار .
قال ابن كثير في آية الأنفال : … وقال الضحاك عن ابن عباس : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) يعني لا يكون شرك . وكذا قال أبو العالية، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والسدي ، ومقاتل بن حيان ، وزيد بن أسلم . وقال محمد بن إسحاق :- بلغني عن الزهري عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا :- (حتى لا تكون فتنة ) :- حتى لا يفتتن مسلم عن دينه. وقوله : ( ويكون الدين كله لله ) ، قال الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية :- يخلص التوحيد لله ، وقال الحسن وقتادة وابن جريج (ويكون الدين كله لله ) أن يقال :- لا اله إلا الله ، وقال محمد بن إسحاق :- ويكون التوحيد خالصاً لله ليس فيه شرك ، ويخلع ما دونه من الأنداد . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :- ( ويكون الدين كله لله ) لا يكون مع دينكم كفر . ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله أنه قال :- (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله ....) اهـ.
وقال البغوي في آية البقرة (وقاتلوهم) يعني المشركين ، (حتى لا تكون فتنة) أي شرك ، يعني قاتلوهم حتى يسلموا فلا يقبل من الوثني إلا الإسلام ، فان أبى قتل (ويكون الدين) أي الطاعة والعبادة ( لله ) وحده فلا يعبد شيء دونه… (فان انتهوا) عن الكفر وأسلموا (فلا عدوان) فلا سبيل (إلا على الظالمين) قاله ابن عباس . اهـ
وقال أبو بطين : - "وأيضا فالمقصود من لا اله إلا الله :- البراءة من الشرك وعبادة غير الله تعالى . ومشركو العرب يعرفون المراد منها لأنهم أهل لسان ، فإذا قال أحدهم :- (لا اله إلا الله) فقد تبرأ من الشرك وعبادة غير الله تعالى . فلو قال :- (لا اله إلا الله ) وهو مصر على عبادة غير الله لم تعصمه هذه الكلمة لقوله :- (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) أي : شرك (ويكون الدين كله لله ) وقوله ( اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) إلى قوله ( فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال النبي :- ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له) وهذا معنى قوله تعالى :- (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين-أي الطاعة - كله لله ) وهذا معنى لا اله إلا الله ."اهـ
ومما يؤكد على أن العبد حتى لو نطق الشهادتين وأدى بعض الشعائر الإسلامية ولكنه مازال واقعاً في أحد أنواع الشرك الأكبر أنه لا يعتبر مسلماً حتى ينخلع من الشرك الأكبر بجميع أشكاله وأنواعه ، فضلا عن دلالة النصوص السابقة من الكتاب والسنة ، هو فهم الصحابة -رضوان الله عليهم - أن النصوص على ظاهرها في أن غاية قتال المشركين هي :- إفراد الله بالعبادة .
أخرج البخاري عن جبير بن حية قال :- ( بعث عمر الناس في أفناء الأمصار يقاتلون المشركين ... فندبنا عمر واستعمل علينا النعمان بن مقرن ، حتى إذا كنا بأرض العدو ، وخرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفا ، فقام ترجمان فقال :- ليكلمني رجل منكم . فقال المغيرة :- سل عما شئت . قال :- ما أنتم ؟ قال : نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد وبلاء شديد ، نمص الجلد والنوى من الجوع ، ونلبس الوبر والشعر ونعبد الشجر والحجر ، فبينا نحن كذلك إذ بعث رب السماوات ورب الأرضين – تعالى ذكره وجلت عظمته – إلينا نبيا من أنفسنا نعرف أباه وأمه ، فـأمرنا نبينا رسول ربنا ، أن نـقـاتـلكم حـتـى تـعـبـدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية …) اهـ
فهذا النص من الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة وهو في جموع المسلمين مع عدم الإنكار عليه . وهذا الإجماع ( السكوتي ) من الجيل الأول رضوان الله عليهم لهو أدل دليل على أن الغاية من القتال إفراد الله بالعبادة والتأله وحده لا شريك له وخلع عبادة كل ما سواه من الأنداد والأوثان والطواغيت والآلهة .
فان الله أنزل الكتب وأرسل الرسل وخلق الكون بأسره ، وأقام سوق الآخرة ليعبد وحده بلا شريك ، ويدان له بالطاعة ، ويكفر بكل مطاع سواه ، ويكون ذلك كله بالقلب والجوارح ، وجعل علامة هذا الاعتقاد القلبي:- التلفظ بالشهادتين في الظاهر، وعند هذا يرفع القتال ( إلا بحقها ) ، ومن المعلوم بيقين أن إفراد الله بالعبادة هو حق لا اله إلا الله فإذا ظهر من العبد خلاف ما أقر به عاد القتال لتحقيق غايته . ولو كان المراد من الناس مجرد التلفظ بالشهادتين فقط دون الانخلاع من الشرك والعبودية بشتى صورها المختلفة لغير الله كافٍ ، فلم قال : ( إلا بحقها ) ؟! إذ لو كان التلفظ هو وحده حقها لكان كل من تلفظ بالشهادتين قد أتى حقها ، وكان ذكر هذه اللفظة ( إلا بحقها ) لغو لا حكم لها ولا حقيقة مترتبة عليها - والعياذ بالله.
ونحن نبرأ بكلام سيد المرسلين من ذلك وهو الذي أوتي جوامع الكلم . ويلزم من قائل هذه المقالة تصحيح إسلام وإيمان المنافق لأنه نطق بالشهادتين ، وهذا وحده حقها !! وان ظهر منه ما يدل على نفاقه ك/سبّ الله وكتابه وأنبيائه ، وموالاة الكافرين، والبراءة من المسلمين ، والتحاكم لغير الله ، ورفض حاكمية الله ، والمسرة بهزيمة المسلمين ، والحزن بانهزام المشركين .